وقد تأملت هذه الطائفة من الإشكالات، فألفيتها مرجوحة، وبيان رجحانها كما يلي: فقوله:
” إن انطباق القاعدة الفقهية على جزئياتها على سبيل الاطراد أو الأغلبية يناقض كونها حكما كليا”
غير سليم، فلا تناقض هناك لأن القاعدة الفقهية قد تبقى على أصلها وهو الاطراد،
وقد يشذ عنها بعض فروعها فيكون انطباقها على الجزئيات غالبا، وهذا لا ينقص من حقيقتها العلمية،
لأن الأغلبية كالاطراد، عملا بقاعدة “ما قرب من الشيء يعطى حكمه” ولهذا فتخلف أحد الجزئيات
عن مقتضى الكل لا ينافي كليتها بالنسبة لجزئيات كثيرة غيرها.
أما قوله إن عبارة ” مصوغ صياغة تجريدية محكمة ” يعد زائدا في التعريف فهو على العكس من ذلك،
بل هي عبارة في محلها، ذلك أنها أفادت قيدا أخرج القواعد المرتبطة بأعيان الجزئيات، قال الدكتور
الروكي موضحا ذلك:” فإذا قلنا مثلا: كل مستعير ضاعت منه العارية بتفريطه فهو ضامن لها ”
لم تكن قاعدة بالمعنى العلمي، لأنها لا تستوعب إلا جزئية واحدة هي:
أن العارية تضمن إذا ضاعت بتفريط المستعير. ولأنها غير مجردة، بل متعلقة بعين هذه الجزئية،
ومثل ذلك لو قلنا “كل مستودع أضاع الوديعة بتفريطه هو ضامن لها”.
وهكذا في ما أشبه ذلك من القواعد التي تصاغ مرتبطة بأعيان الجزئيات، فهي وإن كانت في ظاهرها
تحمل شكل القاعدة، وهيكلها وصياغتها، ليست قاعدة بمعناها العلمي العام لعدم اشتمالها
على عناصر التقعي.
وأما قوله “إن انطباق القاعدة على جزئياتها ليس من حقيقة المعرف” فقول ضعيف لأن انطباق القاعدة
الفقهية على جزئياتها هذا هو واقعها، وهذه هي طبيعتها، وحقيقة أمرها، فالانطباق إذن مرتبط
بواقع القاعدة، وحيزها. أما ما ذهب إليه الدكتور الباحسين من كون استناد القاعدة الفقهية إلى
الدليل الشرعي لا يميزها عن غيرها من القواعد الشرعية، كقواعد العقائد وما أشبهها، فيرد عليه
أن الحقيقة التي تميز القاعدة الفقهية عن غيرها ليس استنادها إلى دليل شرعي، بل ما يدرج في
تعريفها ويحدد عناصرها ومكوناتها، وما تقوم به حقيقتها وماهيتها. فالفرق بين القاعدة الفقهية
وقواعد العقائد هو الفرق بين الفقه والعقيدة، فهو فرق علمي موضوعي، ينبغي أن يتضح بمعالمه
وحدوده في تعريف القاعدة.
أما الإشكال الخامس والأخير الذي طرحه الدكتور الباحسين حول التعريف وهو” أن الاستناد إلى الدليل
الشرعي لا يعد من مقومات القاعدة”، فجوابنا على خلاف ذلك فالاستناد إلى الدليل الشرعي هو من
مقومات القاعدة الفقهية، فما من قاعدة فقهية إلا ولها أصل شرعي “منقول أو معقول
” فإذا لم تكن كذلك فلا عبرة بها، ولا تعد قاعدة فقهية بالمعنى العلمي.
وحاصل الأمر أن المتأمل في تعريف أستاذنا الروكي للقاعدة الفقهية، يدرك أن القاعدة الفقهية
تحتاج إلى أربعة عناصر، تشكل بمجموعها المقومات العلمية الأساسية التي تتكون منها
حقيقتها وتكتسب منها ماهيتها، ويمكن تحديد عناصرها فيما يأتي:
أولا: الاستيعاب:
وهو كون القاعدة تشتمل على حكم جامع لكثير من الفروع بحيث يجعلها تندرج
فيها بقوته وسريانه عليها
ثانيا: الاطراد أو الأغلبية:
فالأصل في القاعدة الفقهية أن تكون مطردة، أي أنها تنطبق على كل جزئياتها دون استثناء لأي
جزئية منها… لكنه قد يتخلف فيها عنصر الاطراد فتنتقل حينئذ إلى مرتبة الأغلبية، أي أنها
تنطبق على أغلب جزئياتها لا على كلها. وإذا لم يكن في القاعدة اطراد ولا حكم أغلبي، فإنها
لا تستحق حينئذ أن تكون قاعدة بالمعنى العلمي
ثالثا: التجريد:
ويراد به أن تكون القاعدة مشتملة على حكم مجرد عن الارتباط بجزئية بعينها… وفقدان القاعدة
لعنصر التجريد، يجعلها تفقد عنصر الاستيعاب أيضا، لأن الاستيعاب في القاعدة يستلزم اتصاف
حكمه بالسعة، والشمول وقوة السريان، وهذا لا يكون إلا إذا كان ذلك الحكم مجردا موضوعيا
غير مرتبط بالذوات
رابعا: إحكام الصياغة:
ومعناه أن تصاغ القاعدة الفقهية في أوجز العبارات، وأدقها وأقواها دلالة على الحكم الذي تشتمل
عليه القاعدة، وينبغي أن تكون الألفاظ ممعنة في الشمول، والعموم والاستغراق حتى لا تنزل
القاعدة إلى مرتبة الضوابط والحدود والتعريفات أو إلى ما دون ذلك
وإلى بعض هذه العناصر أشار الأستاذ مصطفى الزرقا عند تعريفه للقاعدة بأنها “أصول فقهية
كلية في نصوص موجزة دستورية تضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت
موضوعها”. ثم علق على هذا التعريف بقوله: “فهي تمتاز بمزيد الإيجاز في صياغتها على
عموم معناها وسعة استيعابه للفروع الجزئية، فتصاغ القاعدة بكلمتين أو بضع كلمات
محكمة من ألفاظ العموم “
وهكذا فإن انعدام عنصر من هذه العناصر الأربعة، يفقد القاعدة الفقهية حقيقتها وماهيتها.
وبذلك تحتاج المؤلفات المنجزة في مختلف العصور حول القواعد الفقهية إلى إعادة النظر فيها من
أجل تمييز القواعد العلمية المستوفية للمكونات الأساسية العلمية السابقة مما ليس كذلك.