المبحث الثاني: مصادرها.
للقواعد الفقهية مصادر متعددة، فهي ليست نتيجة استدلال معين، فبعض القواعد من نصوص
الشرع الحكيم، وبعضها توصل إليه بطرق الاستدلال والاستنباط المتنوع، سواء كان استنباطا من
النصوص أو استقراء لها، أو تتبعا للجزئيات الفقهية أو غير ذلك، ويمكن تحديد هذه المصادر
من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: القرآن الكريم:
يمكن التمييز في القرآن الكريم بين نوعين من الأحكام:
– نوع منها ورد مقررا لمجموعة من القواعد العامة، والمبادئ الأساسية.
– وآخر جاءت نصوصه تفصيلية، وهذا النوع كان منبعا أساسيا، ومصدرا مباشرا في تقعيد
القواعد وصياغة الضوابط في الفقه الإسلامي.
ومن القواعد الفقهية التي انبثقت أساسا من النصوص التفصيلية نذكر:
أولا: قاعدة المشقة تجلب التيسير
والأصل فيها قوله تعالى: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) وقوله سبحانه: ((يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر))، وقوله عز وجل: ((يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا))
وقوله جل شأنه: ((إن مع العسر يسرا )). إلى غير ذلك من الآيات التي وردت في هذا المعنى.
ثانيا: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
وقد استفادها الفقهاء من قوله تعالى: ((فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)).
وقوله سبحانه: (( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) وقوله عز وجل: ((وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه)). وغير ذلك من الآيات الواردة في إباحة الممنوعات من الأشياء
وقت الضرورة.
ثالثا: قاعدة من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه.
هذه القاعدة مستمدة من قوله تعالى: ((ولا تبطلوا أعمالكم)) وقوله سبحانه: ((ولا تكونوا كالتي نقضت
غزلها من بعد قوة أنكاثا)).
المطلب الثاني: السنة النبوية:
إن الباحث في تاريخ التشريع الإسلامي المتتبع لمراحل نموه وتطوره، ليلمس بوضوح أن أول من
نطق بالقواعد الفقهية هو الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله تعالى بجوامع الكلم،
وخصه ببدائع الحكم.
فكان عليه الصلاة والسلام إذا سئل عن أمر، أو استفتي في مسألة أجاب بعبارة وجيزة فصيحة من
جوامع كلمه، ولا غرابة في ذلك فهو أفصح من نطق بالضاد. فمن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم
التي خرجت مخرج القواعد الفقهية نذكر:
– أولا: لا ضرر ولا ضرار.
هذه القاعدة هي نص المادة 19 من مجلة الأحكام العدلية وهي نص حديث رسول الله صلى عليه وسلم
الذي روي من طريق عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن جده.
– ثانيا: الخراج بالضمان.
هذه القاعدة حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من جوامع كلمه، وفي بعض طرقه ذكر السبب
الذي ورد من أجله النص، وهو أن رجلا ابتاع عبدا فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم ثم وجد به عيبا،
فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال الرجل:”يا رسول الله قد استعمل غلامي”
فقال: “الخراج بالضمان”.
- ثالثا: جناية العجماء جبار.
وهذه القاعدة بالصيغة المذكورة هي نص للمادة 94 من مجلة الأحكام العدلية وأصلها حديث صحيح
أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: “العجماء جرحها جبار”.
ونص قاعدة المجلة فيه تغيير يسير.
ومعنى القاعدة أن ما تلحقه البهيمة بنفسها، من إضرار بالنفس أو بالمال جبار أي هضر وباطل لا حكم له،
إن لم يكن صاحبها قد تسبب في ذلك.
_ رابعا: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
والقاعدة المذكورة هي نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد بروايات عدة
والقاعدة بالصيغة المذكورة هي نص المادة 76 من مجلة الأحكام العدلية.
وغير ذلك كثير من كلماته الجامعة صلى الله عليه وسلم التي خرجت مخرج القواعد الكلية، والمبادئ العامة.
وإلى جانب هذه القواعد التي وردت بنصوصها مأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم هناك
مجموعة أخرى من القواعد الفقهية، استنبطها الفقهاء من دلالات النصوص الحديثية، من أمثلة ذلك:
أولا: الأمور بمقاصدها.
هذه قاعدة مستمدة من حديث صحيح مشهور، أخرجه غير واحد من أئمة الحديث من حديث عمر
بن الخطاب رضي الله عنه: إنما الأعمال بالنيات وقد جعله العلماء أصلا في هذه القاعدة المذكورة.
ثانيا: يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان.
وهي قاعدة مستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون عند شروطهم ما وافق
الحق من ذلك”، والقاعدة بالصيغة المذكورة، هي نص المادة 83 من مجلة الأحكام العدلية.
ثالثا: لا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي
وهي قاعدة مستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي،
فلعل بعضكم أن يكون ألحن في حجته من بعضه، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق
أخيه، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها”
رابعا: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة
وهي قاعدة مستوحاة من حديث: “من ولي شيئا من أمور المسلمين لم ينظر الله في حاجته حتى ينظر
في حوائجهم“
وتروم هذه القاعدة أن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة أي أن نفاذ تصرف الراعي على الرعية،
ولزومه عليهم شاِؤوا أو أبوا، معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة، في ضمن تصرفه دينية
كانت أو دنيوية.
وجدير بالذكر أن القواعد الفقهية التي استمدها الفقهاء من أحاديث الأحكام كثيرة ومتعددة، حتى
إنه ليصعب حصرها وتتبعها.
وقد اهتم الزركشي، والسيوطي وابن نجيم بالتدليل على القاعدة، حيث ما أمكن من
الكتاب العزيز والسنة النبوية.