المطلب الثالث: فقه الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين:
بالإضافة إلى المصدرين الأساسيين للتشريع اعتمد الفقهاء في استنباط وتخريج نصوص القواعد
الفقهية على ما أثر عن بعض الصحابة، والتابعين وأئمة المذاهب وكبار أتباعهم من عبارات جرت
بعد ذلك مجرى القواعد، ففي رسالة القضاء التي كتبها عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري
نقف على مجموعة عامة من القواعد والأصول التشريعية منها:
– الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
– مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
– المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة الزور،
أو مجلودا في حد أو ضنينا في ولاء أو قرابة
– قال ابن القيم معقبا على هذه الرسالة: “وهذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه
أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه”.
ولما كان عهد التابعين وتابعيهم، قد اتسم باتساع ظاهرة الفقه الإسلامي، واتساع مجال الاجتهاد،
والاستنباط بسبب ما جد من قضايا ونوازل، وأحداث فقد كان من الطبيعي أن تتسع إثر ذلك دائرة
القواعد الفقهية عما كانت عليه في عهد الصحابة الكرام. وهكذا أضيفت إلى المأثور عن الصحابة،
أقوال الفقهاء المستخلصة من النصوص الشرعية، فمن نصوصهم رحمهم الله تعالى:
قال الشافعي: “لا ينسب إلى ساكت قول”
وقال: “إذا ضاق الأمر اتسع”.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ” كل ما جاز فيه البيع تجوز فيه الهبة، والصدقة والرهن”.
وقال الكرخي:”الأصل أن للحالة من الدلالة كما للمقالة”
وقال: “الأصل أنه إذا مضى بالاجتهاد لا يفسخ بالاجتهاد ويفسخ بالنص”
. وقال: “الأصل ما ثبت باليقين لا يزول بالشك”
، وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة في كتاب”الخراج” الذي وضعه للرشيد:
”ليس للإمام أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ثابت ومعروف”.
وعليه، فإن فقهاء العصور الأولى لم يهملوا ناحية التقعيد والتقنين، فالباحث في المصادر
الأولى للفقه الإسلامي يلمس مدى العناية المبكرة لهؤلاء بجمع الأحكام المتشابهة،
والمسائل المتماثلة في قواعد كلية، وأصول جامعة.
المطلب الرابع: علل الأحكام الشرعية ومقاصدها:
إلى جانب المصادر السالفة الذكر، أفاد الفقهاء في تحرير قواعدهم الفقهية، وضبط جزئياتها من
علل الأحكام الشرعية و مقاصدها. يقول الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: “إن القواعد الكلية
المأثورة في الفقه الإسلامي لم توضع كلها جملة واحدة… بل تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها
بالتدرج، في عصور ازدهار الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح،
استنباطا من دلالات النصوص التشريعية العامة ومبادئ أصول الفقه، وعلل الأحكام والمقررات
العقلية… فقد كانت تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية، ومسالك الاستدلال القياسي عليها أعظم
مصدر لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها”
وتعتبر قواعد دفع الضرر ورفع المشقة والحرج وجلب المصالح ودرء المفاسد خير نموذج على ذلك.
فمن هذه القواعد على سبيل المثال لا الحصر:
– الضرر لا يزال بمثله
– الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
– درا المفاسد أولى من جلب المصالح.
– يختار أهون الشرين
– الحاجة تنزل منزلة الضرورة
– يتحمل الضرر الخاص دفعا للضرر العام