أجرى الله حكمتَه في تنوُّع العبادات؛ ليربي المسلمين تربية مثالية، تَجعل من أهلها قدوةً صالِحَةً، تنجذب إليهم بسبها أغلبيةُ البشرية المتطلِّعة إلى التحرُّر الصحيح والحضارة الحقيقية، وهذان لا يحصلان أبدًا في مُجتمع يخضع بعضه أو أغلبه لضغوطِ أفراد، ومطالبهم، وتشريعاتهم النابعة من أهوائهم، والخادمة لأغراضهم، والمقدسة والحامية لأشخاصهم فقط، فإنَّ هذا مجتمع متخلف مستعبد؛ لأَنَّ بعضَه أرباب وغالبيته عبيد، فهم مهما حاولوا قلبَ الحقيقة بدعوى التقدميَّة والتحرير، فإنَّها تقدمية إلى العذاب العاجل في الدُّنيا من البؤس، والشقاء، والتنكيل، وفساد الأعراض، وإهدار الكرامة.
إنَّها تقدمية نَحو البهيمية، بل البهيمية أفضل، وإنَّها تَحرير من الإنسانية وانسلاخ عنها، وإنَّما يحصل التحرُّر الصحيح، والتطوُّر النافع، والتقدمية الحضارية الصحيحة باطراح هذه الجاهليات الجديدة، التي هي أفظع وأشنع وأسفل من الجاهلية الأولى، التي حارَبَها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وواصل أصحابه من بعده مُحاربتها، وأقاموا الحضارةَ الإسلامية المعروفة التي لا ترى في الدُّنيا كلها من خير إلاَّ وهو من بقاياها وآثارها، وحَرَّروا أكثرَ العالم من رِقِّ الطواغيت السياسيين والرُّوحانيين.
فإنَّ الجاهلية مهما تنوعتْ أسماؤها، وزخرفت ألقابها، وطبل لها المطبلون وزمروا، فكلها ترجع إلى معنى واحد وقاعدة خبيثة لئيمة، هي إقامة الفكر البشري إلَهًا على الناس من دون الله، يبرز باسمه من لا يرجع إلى الله في أيِّ شأن من شؤون الحياة، بل قد يبرز هذا الفكر أقزامًا يستهزئون بمقدرات الناس.
فمشروعية الله للحج وغيره من عبادات الإسلام المتنوعة:
هي تحريرٌ لعقلِ الإنسان من الأوهام والأضاليل، التي علقت به من مَكْرِ الدَّجاجلة والطواغيت، وتطهير لقلب الإنسان، وتصفية له من مَحبة غير الله والتعلُّق بغير الله، وتَخليص له من وشائج الأرض والطين وعصبية الجنس المفرقة بين البشريَّة.
ولهذا تَجد جميعَ آيات الأحكام المختومة بالوصية بتقوى الله، أو بما يقتضي التخويف من الله، ومهماتها يوجه الله بها نداءَه إلى ذَوي العقول والألباب، كهذه الآية التي أطَلْت الكلامَ عنها: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
وفي تخصيص الله نداءه بالتقوى لأولي الألباب تعريض بأنَّ من لم يتقِ اللهَ، فليس له لب ولا عقل فطري استقلالي، وإنَّما عقله مصادر بدعايات الأباطيل المتنوعة، فهم فقدوا العقلَ الرُّوحي الذي يتحقق لهم بوجوده حُسْن المصير في الدُّنيا والآخرة، ويكتسبون به الحياة الطيبة، وتتوفر به طاقاتهم، ويحصلون به على الأمن والطمأنينة، وإنْ كان لهم أذهان يستطيعون بها الإبداع في الصناعات والمخترعات، ويستطيعون بها على المكر والعهر السياسي المتقلب، الذي لا يحصدون منه سوى الشرور؛ لأَنَّه عقل مادي يشبه ما تحمله بعضُ الحيوانات من العمل لصالح حياتها المادِّية.
الحكمة من مشروعية مناسك الحج
1- التلبية:
مشروعية التلبية طيلة أعمال الحج؛ لترهف شعور الحاج بأنَّه منذ فارق أهله وبلده إلى الحج، فهو مُقبل على الله - سبحانه - قاصد له، فيتجرد عن عاداته ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومُميزاته؛ بحيث يُساوي الغني الفقير، ويُماثل الصعلوك الأمير والوزير، ويكون جميع الحجاج من جميع الطبقات في زِيٍّ كزِيِّ الأموات، فإنَّ في ذلك من تصفيةِ النَّفس وتَهذيبها ما هو إشعار كامل بحقيقة العبودية لله وحْدَه والأُخُوة لجميع المسلمين بشكل لا يقدر قدره.
2- الطواف بالبيت:
وأمَّا طواف الحجاج حول الكعبة البيت الحرام، فهو تشبه منهم بالملائكة الحافِّين بعرش الله، الطائفين به، المسبحين حوله، لا يفترون، وفي هذا من سُمُوِّ الروح ما لا يصفه الواصفون، ومن مُراقبة الله وسد الجوعة الروحية في المسلم إلى رَبِّه المنعم ما لا يقدر أحد قدره، فكل من يعترف بعَرْشِ الرحمن في السماء، وما يحصل حوله من عبادة الملائكة، لا يستنكر وجود بيت الله في الأرض، تَهفو إليه أفئدةُ المؤمنين، وتنتعش أرواحُهم بالطواف حوله، وألسنتهم تلهج بضراعة الدُّعاء على اختلاف لُغاتِهم ولهجاتهم، وكل مَن لَم يعترف بقرارة نفسِه بالعرش الإلهي السماوي، فإنه لا يعترف ببيت لله في الأرض ولا يهضم ما يفعله المسلمون حوله مما شرعه الله.
3- السعي بين الصفا والمروة:
ليس سعي المسلمين بين الصَّفا والمروة مُجرد ذكرى لحادثة تاريخية، وإنَّما هو حكم شرعي قديم من مِلَّة أبينا إبراهيم - عليه السَّلام - تلك الملة الحنيفية التي جاء بها مُحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيجب على الساعي بينهما أنْ يقصد بسعيه عبادة الله؛ امتثالاً لقوله: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، فإنَّ الدين العام يتعلق بقصد القلب، ثُمَّ لا بُدَّ من عمل بدني يتم له القصد ويكمل، ولكنَّه يستشعر الحكمة، أو ما عرف من بعضها؛ ليحصلَ له التأثُّر في نواحي سلوكه، فيكتسب من سَعيه النَّشاط في أعماله الدِّينية والدُّنيوية بلا كلل ولا فتور، مُتطلعًا إلى لُطف الله ورحمته، واثقًا به، معتمدًا عليه، قائمًا بحقيقة التوكُّل التي قامتْ بها أم إسماعيل، معالجًا أقدارَ الله بأقداره الأخرى، كما عالجتها أم إسماعيل، مميزًا بين حقيقة التوكُّل الذي قامت به أمُّه وبين طريقةِ اليأس والقنوط التي رفضتها من الأساس، كما قدمنا ذلك.
4- الوقوف بعرفة:
عرفات: ذكروا في معانيها بضعةَ أقوال أشبه بالخرافات والسفاسف، لم يصح فيها نقلٌ ولا يهضمها عقل، ومن أجود ما قيل في تسميتها أنَّ إبراهيمَ وإسماعيل لَمَّا دَعَوَا اللهَ أن يريهما مناسكهما، أتاهما جبريلُ فعلم إبراهيم المناسك حتى أوصله إلى عرفات، وقال له: أعرفتَ كيف تطوف؟ وفي أيِّ موضع تقف؟ قال: نعم، فسمى هذا الموضع عرفة، والأجود منه: أنَّ الحجاج يتعارفون فيها إذا خيموا، وإذا وقفوا؛ بسبب سَعَةِ مكانها، والقول الثالث الوجيه: أن اشتقاق عرفة من الاعتراف؛ لأَنَّ الحجاج إذا وقفوا في عرفة، اعترفوا للحَقِّ - سبحانه - بالربوبية، والجلال، والصمدية، والاستغناء عن كل شيء، وبعظيم إنعامه عليهم، واعترفوا على أنفسهم بالفقر والذِّلَّة والمسكنة، وشدة الحاجة والعبودية.
وليوم عرفة عشرة أسماء منها خمسة مشتركة بينه وبين غيره، وخمسة تخصه:
أحدها: عرفة لما ذكرناه من التعارُف بين الحجاج، واعترافهم لله بما سبق ذكره.
ثانيها: يوم إياس الكفار من دين الإسلام، فقد نُودِي فيه بأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
أن لا يَحج بعد العام مشرك.
ثالثها: يوم إكمال الدين.
رابعها: يوم إتمام النعمة.
خامسها: يوم الرضوان.
فتسميته الثانية بيوم الإياس؛ لأَنَّ الله أنزل في عشيته: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ﴾ [المائدة: 3].
وتسميته الثالثة بإكمال الدين؛ لقوله - تعالى - ضِمْنَ هذه الآية: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، فلم يأمر الله بعد ذلك بشيء.
وتسميته الرابعة بإتمام النعمة؛ لأَنَّ أعظم النعم نعمةُ الدين، التي ينال أهلُها السَّعادتين في الدنيا والآخرة، وقد تَمَّت في ذلك اليوم، وأَمَّا تسميته الخامسة يومَ الرضوان، فهي: لأَنَّ الله رَضِيَ لهم بدينهم، الذي تَمَسَّكوا به وهو الإسلام، فهي بشارة بَشَّرهم بها في ذلك اليوم، فلا يوم أكمل ولا أشرف من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين، فهذا اليوم يوم صِلَة الواصلين؛ ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقد قالت يهود لعمر بن الخطاب: لو أنَّ هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال عمر: نحن جعلناه عيدين: كان يوم عرفة، ويوم جمعة
وفي قوله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 198] وجوب الوقوف بعرفة، وأنَّ الحج لا يتم إلا به؛ لأَنَّ الأمرَ بذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات يدُلُّ على فرضية الحصول بعرفة زَمنًا من الوقت قليلاً كان أو كثيرًا، وهذا مُخالفة لما غيرته الجاهلية من مِلَّة إبراهيم في الحج، فقد كان بعضُهم لا يقف بعرفات زاعمًا أنَّه لا يخرج من الحرم، ولا يتركه في وقت الطاعة، كما زين لهم الشيطان، وبعضهم يقفون، لكنَّهم يُفارقونها في النهار، وبعضهم لا يسير من مُزدلفة حتى تنتشر الشمس، ويَختفون في غور من الأرض، حَتَّى تنتشر عليهم، وكل هذا من إغواء الشياطين؛ ليلبسوا عليهم دينهم، فجاء القرآن الكريم؛ ليردَّ الأمة إلى المناسك الإبراهيمية، كما رَدَّها إلى الملة الإبراهيمية في الأصول.
وليكن الحاج في وُقوفِه بعرفة مُستشعرًا للموقف العظيم يومَ القيامة، الذي يَجتمع فيه الناس على حالة واحدة، وفي مستوى واحد، ومُعتبرًا بموقف إخوانه المسلمين، الذين اجتمعوا من كل جنس، ومن كل ناحية لمقصد واحد هو قصد وجه ربِّ العالمين، يسألونه الرحمةَ وغفران الذنوب، وينظر فيه إلى حقيقة المساواة في هذا الدين الإسلامي، الذي لا يتميز في إقامة شعائره أحد على أحد مهما اختلفت شخصِيَّاتُهم، فإن في هذا رمزًا عظيمًا للوحدة وللمساواة العامَّة في كل شيء، تلك المساواة التي لم تحظَ بها البشرية، ولن تحظ بها أبدًا في غير الإسلام من مذاهب الدجاجلة والمغرضين.
5- المبيت بمُزدلفة:
المشعر الحرام هو مزدلفة، سُمِّي بهذا الاسم؛ لأَنَّ الناسَ يقربون فيه من منى، والقرب يسمى ازدلافًا، أو لأَنَّهم يجتمعون فيه ليلاً، والاجتماع أيضًا يُسمى ازدلافًا، أو لأَنَّهم يزدلفون إلى الله - تعالى - يعني يتقربون إليه بالوقوف في عرفة، وازدلافهم منها إلى منى، وتسمى مزدلفة: جمعًا؛ لأَنَّه يَجمع فيها بين المغرب والعشاء جمع نسك مؤكد للصلاتين، فالمبيت بمزدلفة واجب إلى ما بعد نصف الليل، لمن حل فيها قبله، وقيل: يكفي المرور، والأصح الاقتداء بما فعله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والعمل بما قاله، ووقف الترخُّص على ما رخص فيه؛ لأن الحج لا يفعل في السنة إلا مرة، وقد يَموت المسلم قبل أن يدركه في السنة الأخرى، فعليه بالاحتياط كما قدَّمنا.
والحاج مأمور بذكر الله في مزدلفة حال المبيت فيها، سواء عند الجبل أم بعيدًا منه حسب ما يتسنى له المنزل، فيذكر الله بالتذكير والتهليل والتلبية والتحميد والدُّعاء، ويكون مجتهدًا في ذلك، والأولى اعتبار الأمر في هذه الآية للوجوب لفعله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقوله: ((خذوا عني مناسككم، فإنِّي لا أدري لعَلِّي لا أحج بعد عامي هذا))، كما في حديث جابر الذي في "صحيح مسلم"وغيره، والأفضل إكمال المبيت، وعدم التعجُّل دون حاجة؛ لأن في تكرار الله - سبحانه - للتقوى خلال آيات الحج مُلاحظة عظيمة يَجب ألا يتساهل الحجاج فيها... ونحوه.