يتظاهر بالنوم في الحافلة عندما يرى مسـنا جـواره، ويتفاخر بذلك؛ يا تُرى، عمّن أتحدّث؟
إنه صديقي بلال؛ لقد تجاوز كلّ الحدود؛ أطلق عليه ” ذكيّ الحي ” ، وهو يظن أن الناس
يحسدونه على ذكائه ، لكن الحقيقة أنّ الناس لا يبالون به فيوما ما سيندم على أفعاله ..
كم أَدْنَيتُه ونصحت له:
اسمع يا صديقي دعك من هذه التصرفات ؛ فلا أحد يصدق أنك مستعجل عندما تقتحم أوّل الصف ..
ولا أحد يصدق أنك مستغرق في نوم عميق فور ركوبك الحافلة ، ولا أحد يصدق أنك نسيت
النقود لتركب دون تذكرة .
أقول هذا بالحسنى إلا أنه لا يبالي ، بل دائما يكرر العبارات نفسها :
دعهم ، لا يهمني أن يصدّقوا ، المهم مصلحتي .
هممت أن أقول : أليس التذاكي خداعًا للآخرين ؟
لكنه في كلّ مرّة يبتعد عني راكضًا .
صدقوني ، هو أحبّ أصدقائي إليّ ؛ ولم يكن هكذا ، لكنّي أعلم أن أصدقاء السوء هم
من غيّروه ..فكرتُ أن أنضم إليهم أنا أيضًا عسى أن أتمكن من مراقبة بلال ، لكنهم
رغبوا عنّي ؛ أتعلمون لماذا ؟
ستكثر مجموعتهم، فإذا ذهبوا للمباراة سأكون زائدا؛ إنها أسباب تافهة !
ذات ليلة بعدما قمت بواجباتي المدرسية ، تحدثت أنا ووالدتي عن تصرفات بلال مجدّدًا ؛
فحزنت هي أيضًا لهذه الحال وقالت: ماذا نفعل؟
والدته السيّدة ليلى موظفة ، ووالده السيد علاء موظف ، وأحيانًا تكون عنده مناوبة ليلية ،
ولذلك فالولد وحيد في البيت .
أنا معه يا أمي ، لكنّه لا يريد اللعب معي ؛ كم طلبت منه ، يسمع ثم يقول : عليّ أن أذهب ،
وينصرف بسرعة !
دق جرس الباب فنظرت إليّ والدتي وكأنها تقول : مَن ؟
كان الوقت متأخّرًا جدًا ؛ حقًا من يأتي في ساعة كهذه ؟
نفضتُ عني الدهشة وجريت نحو الباب ؛ فإذا بالسيدة ليلى والدة بلال ؛ تريد قول شيء ما ،
لكن لا تقدر على الكلام لحقت بي والدتي وقالت:
ادعُ خالتك ليلى لتتفضل بالدخول يا بني ، لم تنتظر عند الباب ؟
بدأنا نفهم منها شيئًا فشيئًا : لم يرجع بلال إلى المنزل !
فقالت والدتي : ماذا ! حتى هذه الساعة؟
وقعت عيناي على الساعة بالردهة ، فإذا بها العاشرة والنصف ، واصلت الخالة ليلى حديثها :
خطر علي ببالي ؛ فجئتُ أسأله ؛ ربّما يعرف مكانه !
نظرت والدتي إليَّ ، لكنّي لم أكن أعلم ، رأيته يتناول سميدًا في المقصف أثناء الاستراحة
الثانية في المدرسة، ولم أره بعدها، قالت والدتي:
هل اتصلت بالشرطة ؟
عندما سمعت الخالة ليلى هذا الكلام ، لم تتمالك نفسها وانتحبت : الشرطة ؟ ماذا حدث لصغيري؟
أين هو الآن ؟
وفي هذه الأثناء ، بدا شبح من زاوية الجدار يتقدم نحونا ، يبدو عليه التعب ؛ إذ كان يسير
مترنّحًا ، ويستند إلى الجدار أحيانًا ؛ فظنته بلالا ، لم تره الخالة ، إذ كانت متجهة إلينا ،
وكانت تبكي وهي تحتضن والدتي ، صمت ؛ فلم أكن واثقا من هوية القادم ؛ فإذا قلتُ:
بلال ها هو قادم ، وكان القادم شخصًا غيره ، انفطر قلب الخالة ، وعندما وصل القادم ظهرت
هويته تحت ضوء المصابيح في الشارع ؛ نعـم لـم أخطئ؛ كان القادم بلالًا؛ الآن أصبح
بإمكاني أن أبشّر بمجيئه ؛ فقلتُ:
أبشري – يا خالة ليلى- أتى بلال؛ ها هو ذا !
البداية نظرت إلى وجهي ، كأنّها لا تصدق ، لكنّها تركت والدتي وتراجعت ؛ فرأت بلالا
وصرخت:
بلال صغيري !
وبعد عشر دقائق ذهبنا أنا ووالدتي والخالة ليلى وبلال إلى غرفة الضيوف، وروى لنا
بلال ما حدث بالتفصيل:
بعد أن خرجت من المدرسة ذهبت مع أصدقائي إلى السينما، ولما انتهى الفيلم لحقت
بالحافلة الأخيرة بصعوبة، كنت متعبًا جدًّا، فركبت الحافلة ونمت، وظللت نائمًا حتى أيقظني
صوت السائق في المحطة الأخيرة، وعدت إلى هنا سيرًا على الأقدام !
يبدو أن الجزاء من جنس العمل، فقد كان بلال يتظاهر بأنه نائم في الحافلة لئلا يقوم لكبار
السن وللسيدات، وها هو ذا قد شرب من الكأس التي سقاهم بها.