من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته ما اطلع عليه من الغيوب الماضية والمستقبلية
وإخباره عنها ومن المعلوم المقرر أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده وقد أضافه الله تعالى
إلى نفسه الكريمة في غير ما آية من كتابه العزيز
قال تعالىقُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ-
وقال تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ
ومن المعلوم أيضًا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون الغيب ولا اطلاع لهم على شيء منه
قال الله تعالى مخبرًا عن غير واحد من رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام أنهم قالوا لأقوامهم :
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية
وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله تبارك وتعالى قد اختص بمعرفة علم الغيب وأنه استأثر به دون خلقه
جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه
بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم قال تعالى :
وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ-
وقال تعالى: عالم الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ
فتلخص من ذلك أن ما وقع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإخبار بالمغيبات
فبوحي من الله تعالى وهو من إعلام الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم للدلالة
على ثبوت نبوته وصحة رسالته
وقد اشتهر وانتشر أمره صلى الله عليه وسلم بإطلاع الله له على المغيبات
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا فما ترك شيئًا يكون
من مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه رواه البخاري ومسلم
وقال عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر
فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر
فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا
والمغيبات التي تغيبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقسام ثلاثة
أولاً : قسم في الماضي
كإخباره عن القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة
إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه تعنتًا وتعجيزًا
عن أخبار تلك القرون السالفة فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرًا كقصص الأنبياء مع قومهم
وخبر موسى والخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين بالإضافة إلى ما جاءت به السنة المطهرة
من تفاصيل ودقائق عن أخبار تلك الأمم السابقة والأنبياء السابقين مع أقوامهم وأشباه ذلك مما صدقه فيه
علماؤهم ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها بل أذعنوا لك فمن موفق آمن بما سبق
له من خير ومن شقي معاند حاسد
ثانياً : قسم في الحاضر
وهو ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه من المغيبات فوقع أثناء حياته ومن أمثلة ذلك
قتل أمية بن خلف
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا قال: فنزل على أمية بن خلف
أبي صفوان وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد فقال أمية لسعد:
ألا انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟ فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل فقال:
من هذا الذي يطوف بالكعبة؟
فقال سعد: أنا سعد
فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنًا وقد آويتم محمدًا وأصحابه؟
فقال: نعم فتلاحيا بينهما - أي تلاما وتنازعا
فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم؛ فإنه سيد أهل الوادي
ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام
قال فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك وجعل يمسكه
فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمدّا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك
قال: إياي؟
قال: نعم
قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟
قال: وما قال؟
قال: زعم أنه سمع محمدًا يزعم أنه قاتلي
قالت: فوالله ما يكذب محمد
قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟
قال فأراد أن لا يخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يومًا أو يومين فسار
معهم يومين فقتله الله
مصارع الطغاة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلاً حديد البصر
(أي نافذه) فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه
قال يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول:
هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله
قال فقال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال:
يا فلان بن فلان و يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقًا
قال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟
قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئًا
الأعمال بالخواتيم
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى
هو والمشركون فاقتتلوا فلما
مال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه (قال ابن الأعرابي: يقال فلان لا يدع شاذة ولافاذة
إذا كان شجاعًا لا يلقاه أحد إلا قتله) فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار
فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدًا - ومعناه: أنا أصحبه في خفية وألازمه لأنظر السبب
الذي به يصير من أهل النار
قال فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال: فجرح الرجل جرحًا شديدًا فاستعجل الموت
فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه (ذباب السيف هو طرفه الأسفل وأما طرفه الأعلى فمقبضه)
بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال
: أشهد أنك رسول الله
قال: وما ذاك؟
قال: الرجل الذي ذكرت آنفًا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه
حتى جرح جرحًا شديدًا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس
وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة
بشارات لبعض الاصحاب
أم حرام بنت ملحان
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان
فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم
يومًا فأطعمته ثم جلست تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت:
فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر (هو ظهره ووسطه)
ملوكًا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة (يشك أيهما قال)
قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك
قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟
قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأولى
قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم
قال: أنت من الأولين
فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت
عكاشة بن محصن
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: عرضت علي الأمم
فرأيت النبي ومعه الرهيط (تصغير رهط وهو: الجماعة دون العشرة) والنبي ومعه الرجل والرجلان
والنبي ليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه
ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي:
هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس (أي تكلموا وتناظروا) في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب
ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله وذكروا أشياء
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟
فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون
فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم
فقال: أنت منهم
ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة
أم ورقة بنت نوفل
عن أم ورقة بنت نوفل أن النبي صلى الله عليه و سلم لما غزا بدرًا قالت: قلت له: يا رسول الله ائذن لي
في الغزو معك أمرض مرضاكم لعل الله يرزقني الشهادة
قال: قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة
قال: فكانت تسمى الشهيدة
قال: وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي صلى الله عليه و سلم أن تتخذ في دارها مؤذنًا فأذن لها
قال: وكانت دبرت غلامًا لها وجارية (أي علقت عتقهما على موتها وهو أن يقول السيد لعبده:
أنت حر بعد موتي) فقاما إليها بالليل فغماها بقطيفة لها حتى ماتت وذهبا
فأصبح عمر فقام في الناس فقال: من كان عنده من هذين علم أو من رآهما فليجيء بهما فأمر
بهما فصلبا فكانا أول مصلوب بالمدينة
وفي رواية البيهقي في آخره: فقال عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول:
انطلقوا بنا نزور الشهيدة