المطلب الثاني: تعريف القاعدة الفقهية باعتبارها علما ولقبا:
إن المتأمل في تعريف الفقهاء للقاعدة يلاحظ أنهم سلكوا في ذلك مسلكين:
– المسلك الأول: وهم الذين يرون أن القاعدة الفقهية كلية: وهذه بعض تعاريفهم:
– قال التهانوي: “أمر كلي منطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه”.
وعرفها التاج السبكي بقوله: “القاعدة الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه” وقال الإمام أبو عبد الله المقري: بأنها “كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود، وجملة الضوابط الفقهية الخاصة”.
– المسلك الثاني: وهم الذين يرون أن القاعدة الفقهية أغلبية (أكثرية): ومن بين هؤلاء العلماء الحموي الذي عرف القاعدة الفقهية بأنها: “حكم أكثري لا كلي ينطبق على معظم جزئياته لتعرف أحكامها منه” .
ومنشأ الخلاف فيما ذهب إليه أصحاب هذه التعريفات، أن من اعتمد على التعريف الاصطلاحي العام للقاعدة قال إنها كلية، ومن نظر إلى الصور المستثناة منها، التي لا ينطبق عليها حكمها، قال إنها أغلبية وبهذا يسلم النظر إلى هذه التعريفات، ويصح التعامل معها.
ولعل ما سلكه الفريق الأول في تعريف القاعدة الفقهية كان أكثر دقة لما يلي:
1 – أن شأن القواعد أن تكون كلية.
2 – أن تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكل لا ينافي كليتها بالنسبة لجزئيات غيرها.
3 – أن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت.
4 – أن المستثنيات لا تغض من شأن القواعد الكلية، لأن القواعد في سائر العلوم لا تخلو من الشواذ والمستثنيات.
ورغم ما حازته بعض هذه التعريفات من دقة، إلا أنه قمين أن نشير أن أصحابها قد اهتموا فيها بالقاعدة من جهة معناها الاصطلاحي العام، دون تفريق بين الفقهية منها وغير الفقهية، باستثناء تعريف أبي عبد الله المقري، فقد اهتم بتعريف القاعدة الفقهية على وجه الخصوص وبهذا يكون تعريفه “ألصق التعاريف بحقيقة القاعدة الفقهية وأخص ما يكون بماهيتها”
وقد حاول الحموي الوصول إلى ذلك حينما فرق بين القاعدة الفقهية، وغيرها بفارق الاطراد وعدمه، أي أن القاعدة الفقهية موصوفة بعدم الاطراد، بينما غيرها موصوف بالاطراد، قال يقرر ذلك: “إن القاعدة هي عند الفقهاء غيرها عند النحاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه”.
فقد نفى الكلية – وهو يعني بها الاطراد- عن القاعدة الفقهية، واكتفى بإثبات الأكثرية لها.
ولقد ساق أستاذنا محمد الروكي في كتابه: “نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء”. مجموعة من تعريفات بعض المحدَثين للقاعدة الفقهية، علق عليها وتعقبها بالنقد العلمي، وبين ما فيها من خلل خصوصا تعريف الأستاذ علي أحمد الندوي، وتعريف الشيخ أحمد بن عبد الله بن حميد. وخلص في الأخير إلى تعريف ارتضاه للقاعدة الفقهية، قال بعد كلام: “وانطلاقا من هذه الحقائق العلمية نستطيع الآن أن نعرف القاعدة الفقهية بأنها “حكم كلي مستند إلى دليل شرعي مصوغ صياغة تجريدية محكمة، منطبق على جزئياته على سبيل الاطراد أو الأغلبية”.
وقد وجه الدكتور الباحسين إلى هذا التعريف خمسة إشكالات. يمكن بسطها على المنوال الآتي:
1 – القول بانطباق القاعدة الفقهية على جزئياتها على سبيل الاطراد أو الأغلبية يناقض كونها حكما كليا.
2 – ذكره عبارة “مصوغ صياغة تجريدية محكمة” في التعريف يعد زائدا أو تكرارا مع القول بكون القاعدة الفقهية “حكم كلي” وحجته – أي الدكتور الباحسين- في ذلك أن الحكم لا يكون كليا إلا وهو مجرد، ولا يكون مجردا دون عموم فهما أمران متلازمان، إن لم يكونا أمرا واحدا.
3 – قوله “ينطبق على جزئياته ليس من حقيقة المعرف وإنما هو ثمرة من ثمراته”.
4 – قوله “مستند إلى دليل شرعي” لا يميز القاعدة الفقهية عن غيرها من القواعد الشرعية كقواعد العقائد، وما أشبهها مما هو ليس من الأحكام العملية.
5- الاستناد إلى الدليل الشرعي ليس من مقومات القاعدة، لأنه كلام عن مصدرها، ومصدر القاعدة ليس ركنا فيها.