لا بد أن نعلم أن الإنسان مهما طال عمره فلا بد أن يرجع إلى ربه جل وعلا ليحاسبه على كل
ما قدم من خير أو شر…
ومن هنا كان لا بد أن نتذكر دائما يوم القيامة حتى لا تتعلق قلوبنا بالحياة الدنيا.
وها هي سورة الانفطار تذكرنا بهذا اليوم العظيم.
ابتدأت السورة الكريمة ببيان مشاهد الانقلاب الذي يحدث في الكون، من انفطار السماء،
وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، وما يعقب ذلك من الحساب والجزاء:
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ . وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) حتى (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).
ثم تحدثت عن جحود الإنسان وكفرانه لنعم ربه، وهو يتلقى فيوض النعمة منه جل وعلا،
ولكنهلا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة:
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ).
ثم ذكرت علة هذا الجحود والإنكار، ووضحت أن الله تعالى وكل بكل إنسان ملائكة يسجلون
عليه أعماله، ويتعقبون أفعاله:
(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ . وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ . كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ).
وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إلى قسمين: أبرار، وفجار، وبينت مال كل من الفريقين:
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ) الآيات..
وختمت السورة الكريمة بتصوير ضخامة يوم القيامة وهوله، وتجرد النفوس يومئذ من كل حول وقوة، وتفرد الله جل وعلا بالحكم والسلطان:
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).
فهيا بنا لنتعايش بقلوبنا مع تفسير سورة الانفطار:
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)
أي: إذا السماء انشقت بأمر ربها جل وعلا لنزول الملائكة.
(وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ)
أي: وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وزالت بالكلية من أماكنها وبروجها.
(وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ)
أي: وإذا البحار فجرت بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا واختلط ماؤها العذب بمائها المالح.
(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)
أي: وإذا القبور قلب ترابها وأخرج ما فيها من الموتى وصار كل ما في باطنها ظاهرا على وجهها.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)
هذا هو الجواب…
أي: أنه في هذه اللحظة تعلم كل نفس ما قدمت من خير أو شر وما قدمت من عمل صالح أو طالح.
وهنا تنتقل الآيات نقلة أخرى لتذكير الإنسان الغافل بما أمامه من أهوال وشدائد يوم القيامة..
ولذا قال تعالی:
(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)
أي: أي شیء خدعك، حتی عصيت الله وتجرأت على مخالفة أمره، مع إحسانه إليك وعطفه عليك؟
وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال: كيف قابلت إحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرد والطغيان.
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ)
أي: الذي أوجدك من العدم، فجعلك سويا سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر، وجعلك معتدل القامة،
منتصبا في أحسن الهيئات والأشكال.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)
أي: ركبك في الصورة الجميلة التي شاءها هو واختارها لك ولم يجعل صورتك على هيئة الدواب..
وهذا كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).
(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)
أي: وهنا يوبخ الله المشركين على تكذيبهم بيوم الدين وكأنه يقول لهم: ارتدعوا يا أهل مكة وإياكم
أن تغتروا بحلم الله.
فالله يعلم أن الذي يحملكم على مواجهة كرمه بالمعاصي والذنوب تكذيب في قلوبكم بالمعاد
والجزاء والحساب.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)
أي: إن عليكم ملائكة حفظة يضبطون أعمالكم ويراقبون تصرفاتكم.
(كِرَامًا كَاتِبِينَ)
أي: كراما على الله يكتبون أقوالكم وأعمالكم.
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)
أي: أن هؤلاء الملائكة يعلمون كل ما يصدر منكم من خير أو شر، ويسجلونه في صحائف أعمالكم
ليجازيكم الله بها يوم القيامة.
ثم ذكر الله عز وجل انقسام الناس جميعا يوم القيامة إلى أبرار وفجار وذكر مصير كل فريق فقال تعالی:
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)
أي: إن المؤمنين الذين اتقوا ربهم في الدنيا، لفي بهجة وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة
بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في الجنة.
(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)
أي: وإن الكفرة الفجار، الذين عصوا ربهم في الدنيا، لفي نار محرقة، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم.
(يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ)
أي: يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به.
(وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)
أي: وليسوا بغائبين عن جهنم، بعيدين عنها لا يرونها، بل هي أمامهم يصلون ويذوقون سعيرها،
ولا يخرجون منها أبدا.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)
أي: ما أعلمك ما هو يوم الدين؟ وأي شيء هو في شدته وهوله؟
(ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ)
أي: إن يوم الجزاء من شدته بحيث لا يدري أحد مقدار هوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان.
(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا)
أي: هو ذلك اليوم الرهيب الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحدا بشيء من الأشياء، ولا أن يدفع عنه ضرا.
(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)
أي: والأمر في ذلك اليوم الله وحده، لا ينازعه فيه أحد.