” هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا “
ذكر الله تعالى أنه مر علي الإنسان وقت طويل قبل أن يوجده .
أي كان في العدم ، لم يكن ذكر ولا وجود .
” إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا “
أي نحن بقدرتنا خلقنا الإنسان من ماء الرجل الذى يختلط بماء المرأة وجعلنا له سمعا
وبصرا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية .
” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا “
أي بيناه له ووضحناه وبصرناه طريق الخير وطريق الشر . إما أن يكون مؤمنة شاكرة
لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإما أن يكون شقية فاجرة، فيكفر بنعمة الله
ويسلك سبيل الشر والفجور.
” إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا “
أي إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله وكذب رسله وتجرأ على معاصيه قيودا تشد بها
أرجلهم وأعناقهم ، ونارا تستعر بها أجسامهم ، وتحرق بها أبدانهم .
” إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا “
أي الذين كانوا في الدنيا أبرار بطاعتهم ، فإنهم يشربون كأسا من الخمر ممزوجة بأنفس
أنواع الطيب وهو الكافور .
” عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ “
أي هذا الكافور يتدفق من عين جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد الله الأبرار ،
ووصفهم بالعبودية تكريما لهم وتشريفا .
” يفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا “
سهلة لا تمتنع عليهم يقودونها إلى حيث شاءوا من الدور والقصور .
ثم ذكر بعض أعمالهم الصالحة ترغيبا في فعلهم :
” يوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا “
أي كانوا في دار الدنيا يوفون بالنذر ، ويخافون يوم القيامة لأن شره فاشيا .
” وَيطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا “
ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له للفقير الذي لا يملك شيئا، واليتيم الذي
مات أبوه وهو صغير ، والعبيد أسرى الحرب .
وكان إطعامهم لوجه الله تعالى ويقولون بلسان الحال ..
” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا “
أي رجاء ثواب الله ورضاه لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشکرونا عند الناس .
” إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا “
أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه يوم تعبس فيه الوجه من فظاعة أمره وشدة هوله .
” فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ “
أي آمنهم مما خافوا منه ، فلا يحزنهم الفزع الأكبر ، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .
” وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا “
أي وأعطاهم وأكرمهم نضرة في وجوههم وسرور في قلوبهم .
” وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا “
أي بسبب صبرهم وأعطاهم منزلا رحبا وهي الجنة ، جامعة لكل نعيم، سالمة من كل مکدر
ومنقص ، وألبسهم لباس حسنا وهو الحرير.
يخبر تعالی عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من
الفضل العظيم ، فقال:
” متَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا “
جالسين في حال الطمأنينة والراحة والرفاهية ، على السرد التي عليها اللباس المزين ،
ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم .
” وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قطُوفُهَا تَذْلِيلًا “
أي ظلال الأشجار في الجنة قريبة من الأبرار والثمار قريبة منهم .
” وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا “
أي الخدم والولدان على أهل الجنة يطوفون عليهم بأواني الطعام ، وهي من فضة وأكواب
بعضها من فضة وبعضها من ذهب .
” قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ “
أي جامعة بين بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلا من زجاج ، فهذه
الأكواب هي من فضة وهي مع هذه شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما
لا نظير له في الدنيا .
” قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا “
أي على قدر ریهم لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي معدة لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها .
” وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا “
ويسقون في الجنة خمرا طيب الطعم فيها رائحة طيبة وهي الزنجبيل .
” عَيْنًا فِيهَا تسَمَّى سَلْسَبِيلًا “
أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا سميت بذلك لسلاستها ولذتها وحسنها .
” وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ “
أي ويطوف على أهل الجنة للخدمة أولاد على حالة واحدة لا يتغيرون عنها ولا تزيد
أعمارهم عن تلك السن .
” إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا “
أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن
ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم من حسنهم لؤلؤا منثورة .
” وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا “
أي وإذا رأيت يا محمد في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها مملكة لله هناك عظيمة ،
وسلطانا باهرا .
” عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ “
أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها ،
والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو معهود في اللباس .
” وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا “
أي حلوا في أيديهم أساور من فضة ، ذكورهم وإناثهم ، وسقاهم – فوق ذلك النعيم –
شرابا طاهرة لم تدنسه الأيدي ، ولا كدر فيه بوجه من الوجوه ، مطهرة لما في
بطونهم من كل أذى .
” إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا “
إن هذا الجزاء الجزيل على ما أسلفتموه من إيمان وأعمال صالحة . جزاكم الله تعالى
على القليل بالكثير .
” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا “
أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقا لتذكرهم بما فيه من الوعد
والوعيد والترغيب والترهيب .
” فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ “
أي كما أكرمك بما أنزل عليك فاصبر على قضائه وقدره ، واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره .
” وَلَا تطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا “
أي ولا تطع الكافرين المنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك بل بلغ ما أنزل إليك من
ربك وتوكل على الله ، والله يعصمك من الناس .
” وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بكْرَةً وَأَصِيلًا “
أي صل لربك وأكثر من عبادته وطاعته أول النهار وآخره في الصباح والمساء .
” وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا “
أي ومن الليل فصل له متهجد ، مستغفر في مناجاته ، وأكثر من التهجد والقيام لربك
في جناح الظلام والناس نيام .
” إِنَّ هَؤُلَاءِ يحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ “
أي المكذبين لك أيها الرسول يفضلون الدنيا ويطمئنون إليها ، وينهمكون في لذاتها الفانية .
” وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا “
أي ويتركون العمل ويهملون يوم القيامة ، ذلك اليوم العسير الشديد، وسمي ثقيلا لما
فيه من الشدائد والأهوال .
” نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ “
أي نحن بقدرتنا أوجدناهم من العدم وأحكمنا وأتقنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق
حتى كانوا أقوياء أشداء .
” وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا “
إذا شئنا أفنيناهم وأهلكناهم وأتينا بآخرين غيرهم أطوع لنا منهم .
” إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ “
أي هذه السورة وما فيها من الآيات تذكرة لمن تذكر ، وعظة لمن اتعظ واعتبر .
” فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا “
أي طريقا موصلا إليه ، فالله يبين الحق والهدى ، ثم يخبر الناس بين الاهتداء بها
والنفور عنها إقامة للحجة ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة .
” وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ “
أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفع إلا أن يشاء الله .
” إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا “
أي علم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها ، ومن يستحق الغواية
فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة .
” يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ “
فيختصه بعنايته ، ويوفقه لأسباب السعادة ، ويهديه لطرقها .
” وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا “
وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذابا شديدا مؤلما في دار الجحيم