مؤامرة يهود بني قريظة
في هذه الآونة العصيبة جاءت الأخبار أن يهود بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم _ وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تحدق بالمدينة وكان بين المسلمين وبين يهود بني قريظة عقد وعهد فحملهم حي بن اخطب سيد يهود بني النضير واحد النفر الذين حرضوا قريشا وسائر العرب علي حرب الإسلام علي نقض العهد وقد فعل ذلك كعب بن أسد سيد قريظة بعد امتناع وتردد وتحقق رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذه المؤامرة بعد أن بعث سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة ليستوضحوا الخبر فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم علي اخبث ما بلغهم عنهم
وقالوا من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عند ، واقبل الوفد علي رسول الله واخبروه بغدر اليهود فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف ، ويصور هذا القران الكريم في قول الله تعالى
:{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا)
سورة الأحزاب، الآيات 10-11وزاد من خطورة الموقف خوف الرسول من أن يغتنم هذه الفرصة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ذلك المنافق الذي انسحب يوم أحد بثلث الناس من صفوف المسلمين لاسيما وقد ظهرت بوادر النفاق من بعضهم حتى لقد قال أحدهم "كان محمد يعدنا كنوز كسري وقيصر و أحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلى الغائط
لكل هذا هم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعقد الصلح بينه وبين غطفان علي أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة وقد عدل الرسول عن ذلك بعد استشارة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة نقالا له يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال بل شئ اصنعه لكم والله ما اصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (غالبوكم) من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن و هؤلاء علي الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون منه ثمرة الاقرى أو بما افحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له و أعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله مالنا بهذا حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنت وذاك
وفي وسط هذه الشدائد المتتالية و الأزمات المتلاحقة والمصاعب المتتابعة برز أصحاب الإيمان الراسخ والعقدية الثابتة يغالبون نزعات الجبن والتردد التي بدت هنا وهناك ويسرعون إلى الفداء والتضحية غير هيابين ولا وجلين
روي ابن إسحاق أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ـ وكانت مع نسوة مسلمات في حصن بني حارثة ومر سعد بن معاذ وعليه درع قصيرة قد خرجت منها ذراعه كلها وهو يرتجز
لبث قليلا يشهد الهيجا جمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت له أمه الحق أبني فقد والله أخرت قالت عائشة ، فقلت لها يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت اسبغ مما هي قالت وخفت عليهوكان ما تخوفته عائشة ـ رضي الله عنها ـ فرمي سعد بن معاذ بسهم قطع منه الأكحل ( عرق اي الذراع ) فقال سعد اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقي لها فإنها لا قوم أحب إلى أن أجهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه و أخرجوه اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فأجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظةودعوة سعد هذه تصور مبلغ ما انطوت عليه قلوب المسلمين من غيظ وحنق لخيانة اليهود وانضمامهم إلى الأحزاب في هذا الوقت العصيبومر يهودي من بني قريظة بالحصن الذي فيه صفية بنت عبد المطلب فجعل يطيف فيه فنزلت صفية من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته وأحاط المشركون بالمسلمين فحاصروهم قريبا من شهر واشتد البلاء
و استأذن بعض الناس رسول الله صلى الله عليه و سلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} سورة الأحزاب، آية 13وجاء المسلمون إلى رسول الله يسألون هل من شئ يقولوه فقد بلغت القلوب الخناجر؟ قال : نعم قولوا اللهم استر عوراتنا و آمن روعاتناودعا رسول الله علي الأحزاب فقال : اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم
موقف نعيم بن مسعود الغطفاني
وبينما رسول الله و أصحابه في هذه الشدة العظمي اخذ سير المعركة يتطور علي نحو لا يدرك الناس كنهه { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } وتدخلت عناية الله لتضع حداً لمعاناة المسلمين ولتقمع جحافل الشرك والكفر والخيانة
فقد جاء نعيم بن مسعود الغطفاني رسول الله فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم وتكلم معهم بكلام جعلهم يشكون في صحة موقفهم وتأييدهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد وعدائهم للمهاجرين والأنصار الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمين لهم و أشار عليهم ألا يشتركوا مع الأحزاب في حرب ضد محمد حتى يأخذوا من الأحزاب رهناً من أشرافهم يبقونه في أيديهم خشية أن تنسحب الأحزاب ويتركوهم وحدهم فقالوا له لقد أشرت بالرأي
ثم خرج حتى أتي قريشاً وأظهر لهم وده ونصحه واخبرهم بأن اليهود قد ندموا علي ما كان منهم من نقض عهد محمد وأنهم سيطلبون من قريش رجالا من أشرافهم يدفعونها إليه ليقتلهم
ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش ـ واختفي نعيم من الميدان ليرقب ثمار هذه الوقيعة . فكان كل فريق منهم علي حذر من الآخر وتوغرت صدورهم وشك كل واحد في الآخر ، وندبت الفرقة وتوجس كل منهم خيفة من صاحبه
وفي ليلة السبت من شوال سنة خمس قرر أبو سفيان القيام بهجومه الكبير فأرسل الى بني قريظة ليستعدوا معه للقتال فجاءهم الجواب متخاذلا بأنهم لا يستطيعون قتالا يوم السبت ثم طلبوا منهم رهنا من رجالهم فتحقق لقريش وغطفان صدق ما حدثهم به نعيم بن مسعود وامتنعوا عن تحقيق مطالبهم كما تحقق لليهود صدق حديثه كذلك. وهكذا تفرق الشمل وتفتت الوحدة ودب الخلاف وتوقف الهجوم
وبينما هم علي هذه الحال من الحسرة واليأس إذ بعث الله علي الأحزاب الريح في ليلة شاتيه شديدة البرد فجعلت تقلب قدورهم وتطرح أبنيتهم
و رأي المشركون أن المقام علي هذه الحالة متعذر فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف و اختلفنا وبنوا قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدور ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل ثم قام أبو سفيان إلى جمله و هو معقول فجاس عليه ثم مضي به فما أطلق عقاله ألا و هو قائم ورحل جميع الأحزاب
{وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}سورة الأحزاب، آية 25
ووضعت الحرب أوارها فلم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:لن يغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم
وجعل رسول الله يهتف قائلا : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده وهزم الأحزاب وحده، وصدق الله العظيم
{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} - سورة الأحزاب، آية 9
هذا وقد استشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة علي اكثر تقدير وقتل من المشركين ثلاثة