ثالثاً:التقديم بين الآية والآية:
في هذه الوقفة نرى أسراراً أخرى لأسلوب التقديم مغايرة للمواضيع السابقة، والمقصود بهذا التقديم الذي
يأتي بين الآية والآية هو ما ننظر إليه من حيث تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة،
أو تقديم آية على آية في النزول، أو تقديم موضع على آخر في السورة الواحدة، أو التقديم والتأخير
في المتشابه.
أولاً:تقديم صيغة على أخرى في بعض آيات السورة الواحدة:
وقد ورد ذلك في بعض المواضع من آيات الذكر الحكيم لعلة يقتضيها السياق ويتطلّبها المعنى،
وذلك نحو قوله تعالى
:(( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم ))
وقوله تعالى:
(( وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق
الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ))
فقد وردت الصيغتان في الآيتين وهما:أثيم – آثم، وتقدّمت الصيغة الأولى على الثانية للفارق المعنوي
بينهما، فـ ( أثيم ) صفة مشبّهة باسم الفاعل، وهي صيغة مبالغة تفيد الإقامة على فعل ذلك الإثم والإصرار
عليه والتمعّن فيه بلامبالاة، وأثيم:من قوم أثماء، والأثيم:الفاجر
فقد وردت صيغة ( أثيم ) في سياق الحديث عن الربا ومحقه والنفير منه، قال الزمخشري في قوله تعالى:
( كل كفار أثيم ) تغليظ في أمر الربا وإيذان بأنه من فعل الكفار ( قوم أثماء ) لا من فعل المسلمين
أما الآية الأخرى فقد وردت في سياق النهي عن كتمان الشهادة (( ولا تكتموا الشهادة )) ثم الوعيد من
التهديد عن طريق أسلوب الشرط (( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ))... وكتمان الشهادة أقل جرماً من تعاطي
الربا وممارسته الذي يتأذى منه المجتمع كله، بينما تأتي ثمرة كتمان الشهادة المرّة على الأفراد… وقد أسند
الإثم إلى القلب لأن كتمان الشهادة ( هو أن يضمرها ولا يتكلّم بها، فلما كان إنما مقترفاً بالقلب أسند إليه،
لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد:هذا مما أبصرته عيني،
ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي، ولأن القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد
كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل:قد تمكّن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه
ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى:
(( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرّعاً وخفية لئن أنجانا
من هذه لنكوننّ من الشاهدين ))
وقوله:(( قل الله ينجيكم منها ومن كلّ كرب ثم أنتم تشركون ))
وقد وردت صيغتان في الآية الكريمة:ينجيكم – أنجانا، وقدّم الأولى على الثانية لاقتضاء المعنى الذي ينتقي
الألفاظ ويحددها، فإن الألفاظ في القرآن نزلت من لدن القدرة الإلهية معبّرة عن معانيها الدقيقة، فإذا وردت
مادة بصيغتين أو أكثر، فليس ذلك فراراً من التكرار، وإنما يحدث لأن كل صيغة تعبّر عن معنى لا تعبّر عنه
الصيغة الأخرى، مهما تقاربتا
فالصيغة الأولى التي جاءت بالتشديد ( ينجيكم ) إنما جاءت في جناب الله وحقه، وجاءت في صيغة الاستفهام المجاب عنه في الآية التي تلتها مباشرة ( قل الله ينجيكم ) فهي نجاة بالغة العظمة والقدرة، وهي تستمر نجاة
بعد نجاة… أما الصيغة الثانية فقد كانت دعاء منهم، وكانت ( أنجى ) دالة على قلّة احتمال حدوث النجاة،
فقد سبقها ( لئن ) تأتي لتقليل حدوث فعل الشرط ولهذا بالغوا في جواب ( لئن) عن طريق التوكيد باللام ونون التوكيد الثقيلة:( لنكونن ) رغبة في تقوية حدوث فعل الشرط الذي تتوقف على حدوثه حياتهم
ومن ذلك ما جاء أيضاً في سورة غافر في قوله تعالى:
(( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربّي الله وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب ))
فقدّمت صيغة اسم الفاعل ( كاذباً ) على صيغة المبالغة ( كذّاب ) فالأولى، وقعت في سياق يوحي بانتفاء الكذب
من أصله لتقديم قوله:(( وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم )) فكيف بمن جاء بالبيّنات من رهب أن يكون متّصفاً
ولو أدنى اتصاف بالكذب ؟! ولذلك جاءت الصيغة ( كاذباً ) في سياق ( إن ) الشرطية مع حذف النون من
( يك ) فلم يقل يكن وهو الأصل ليشعر بانتفاء ذلك، هذا بالإضافة إلى تنكير (كذبا ) في سياق الشرط لإفادة العموم، أي:وإن يك كاذباً ما، يعني إن وُجد ذلك من أصله.
أما صيغة ( كذّاب ) فهي لإفادة المبالغة كما سبق ذكره، وهي ترسم صورة لهذا الذي يمارس الكذب ويتعاطاه في
كل أحوال حياته، حتى استحقّ تعريفه بالمسرف، وعدم الهداية من الله ( إن الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب )
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سورة التحريم في قوله تعالى:
(( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلمّا
نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ))
فجاءت صيغة ( نبّأها ) متقدمة على ( أنبأك ) ثم أعديت صيغة ( نبّأني ) مرة أخرى، لأنّ الصيغتين ( نبأ ) في
حق النبي صلى الله عليه وسلم، وما ينبّئ به فهو حق اليقين لأنه لا ينطق عن الهوى، و ( من أنبأك ) حكاية
عن كلام أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، وهي لم تبلغ مبلغ يقين الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الراغب الأصفهاني: نبّأته أبلغ من أنبأته (( فلننبئنّ الذين كفروا – ينبّؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر))
ويدلّ على ذلك قوله تعالى:
(( فلما نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ))
ولم يقل أنبأني بل عدل إلى نبأ الذي هو أبلغ تنبيهاً على تحقيقها وكونه من قبل الله
ومن ذلك أيضاً ما جاء بصيغة المبني للمجهول سابقاً ومتقدّماً على المبني للمعلوم خلافاً للمعهود وذلك
في قوله تعالى:
(( ويطاف عليهم بآنية من فضّة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضّة قدّروها تقديراً ))
وقوله تعالى:
(( ويطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً ))
قال الكرماني : إنما ذكر الأول بلفظ المجهول لأن المقصود ما يطاف به لا الطائفون، ولهذا قال:
( بآنية من فضة ) ثم ذكر الطائفين فقال( ويطوف عليهم ولدان مخلّدون ) فالصيغة الأولى جاءت بالبناء
للمجهول لأن الفاعل غير مراد، ولكن المراد تسليط الضوء ولفت الذهن إلى النعم المتعددة في السياق، فإذا
انتهى من تعداد ذلك، كان لائقاً التعقيب بذكر هؤلاء الغلمان الذين يقومون بخدمة المؤمنين ويقدّمون لهم ما
يقدّم من ألوان هذه النعم التي ذكرت من قبل، وإنه لمن المعقول حقاً أن يتقدّم تعداد النعم على من يقومون بتقديمها ومن ذلك أيضاً ما جاء مقدّماً بالتضعيف على وزن ( فعّل ) على الفعل المهموز على وزن أفعل، يقول تعالى:(( فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ))
وقد نصّ الكرماني على أن ذلك ليس من التكرار، والتقدير:مهّل، مهل لكنه عدل في الثاني إلى قوله:أمهل كراهة التكرار وخالفة الزمخشري واعتبره من التكرار، فقال:أي إمهالاً يسيراً، وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتبصّيرأي:في ذلك إشاعة جو من الطمأنينة والسكينة في قلب النبي وقلب المؤمنين ليثبتوا مع النبي ويصبروا على أذى الكافرين… وهذا وإذا كان ختام السورة بهذا التكرار المؤدى للتوكيد، فإن فيه اتفاق واتساق مع بداية السورة بالقسم المفيد للتوكيد أيضاً ثم بتكرار كلمة الطارق التي أشاعت جرساً قويّ الإيقاع في جو المشهد.