التقديم في بعض أسمائه سبحانه:
كتقديم ( العزيز ) على ( الحكيم ) لأنّه تعالى عز فحكم كما في قوله تعالى:(( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم
يتلو عليهم آياتك ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم إنّك أنت العزيز الحكيم ))
وذلك أن معنى ( العزيز ) لا يغالب، والقادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله. ومعنى ( الحكيم ) المدبّر
الذي يحكم الصنع ويحسن التدبير، فتكون القدرة متقدّمة على حسن التّدبير
وبالنّظر في الآية الكريمة نجد فيها ترتيباً آخر اقتضى تنظيم الأفعال داخل السياق فجاء الدعاء ببعث الرسول
أولاً ( وابعث ) ثم التلاوة ( يتلو ) ثم التعليم ( ويعلّمهم ) ثم التزكية والتطهير ( ويزكّيهم)..
وفي ترتيب هذه الأفعال وتقديم بعضها على بعض أثر عميق في النفس.. إذ يوحي اختيار كلمة البعث في
قوله ( وابعث ) بأنهم كانوا كالموتى في أحوالهم، لا يشعرون بشيء من صالح الحياة، فيكون الرسول
فيهم بمثابة من بعثهم من رقادهم الجاهلي وموتهم القلبي..
وقوله ( منهم ) ليكون أرفق بهم وأعلم بشؤونهم وأحوالهم.. فإذا تحقق هذا جاءت المرحلة الثانية وهي التلاوة
بما فيها من خشوع وتدبّر وترقيق للقلب والنفس، ولذلك اقتضاها السياق إيثاراً على ( يقرأ ) مثلاً،
فإذا تحققت التلاوة بسياجها جاء التعليم الذي يشتمل على الكتاب أي القرآن الكريم وبما فيه من حكمة،
أي فقه الشريعة وفهم التأويل، و”قيل إن المراد بالآيات:ظاهر الألفاظ، والكتاب:معانيها، والحكمة:الحكم وهو
مراد الله بالخطاب،
والعزيز:الذي لا يعجزه شيء، قاله ابن كيسان، وقال الكسائي:العزيز:الغالب ولهذا أكّد الضمير المتصل في
( إنك ) بالضمير المنفصل ( أنت ) للدلالة على أنه لا غالب إلا الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى غالب على
أمره، يمضي أمره ويمكّن لرسله، ولهذا اقتضى السياق في ختام الآية قوله:( العزيز الحكيم ) دون:العليم
أو الخبير مثلاً، ولأن لكل مقام مقال، فقد جاءت السياقات المشابهة لهذا المعنى بـ ( العزيز الحكيم )
نحو قوله تعالى:(( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ))
فقد جاءت الآية على وجه التهديد والوعيد، أي:من ضلّ عن طريق الهداية وانحرف عن سبيل الحق
بعد ما تبيّن له البيّنات والحجج ما تبيّن (( فاعلموا أن الله عزيز حكيم )) وهذا أبلغ في إثبات الروع والمهابة،
ولو جاء نوع العذاب محدداً ما بلغ في الحسن مبلغ قوله ( عزيز حكيم ) أي غالب لا يعجزه الانتقام منكم، (الحكيم ) لا ينتقم إلا بحق، وروى أن قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يقرأ القرآن، وقال:إن كان
هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه
وإذا كان الزلل معناه التنحّي عن طريق الحق والهداية، فإن أصله “الزلل في القدم، ثم استعمل في الاعتقادات
والآراء وغير ذلك، يقال:زلّ يزلّ زلا وزللا وزلولا، أي دحضت قدمه، وقرئ:زللتم ” بكسر اللام وهما لغتان”
وقد جاء الفعل ( جاءكم ) مؤنثاً بتاء التأنيث لأن الفاعل مؤنث ( البيّنات ) أي:الحجج الواضحة والبراهين
الصحيحة، وقد يأتي مذكّراً مع ( البيّنات ) في موضع آخر حسب اقتضاء المعنى، وذلك كما جاء في قوله تعالى:
(( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البيّنات والله لا يهدي القوم الظالمين ))
فإن المقصود بالبيّنات في هذا الموضع:القرآن الكريم، والله تعالى أعلم، لأنّ ما دلّت عليه الكلمة كان مذكراً، فقد
جاء قبلها قوله تعالى:(( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ))
وكل من هؤلاء الأنبياء… أُنزل عليه كتاب، والكتاب مذكر، ثم ورد في الآية التالية لها، كلمة ( الإسلام)
والإسلام مذكر، فما دلت عليه كلمة البيّنات كان… مذكراً سواء أكان الكتاب أم كان الإسلام أم كان الكتاب
والإسلام معاً، ولهذا جاء فعلها… مذكر
وقال تعالى في موضع آخر من نفس السورة الكريمة:(( ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم ))
، فقدّم التفرقة على الاختلاف لأن الأولى سبب في الثانية التي جاءت مترتّبة عليها، فالاختلاف ناجم عن
التفرقة وتابع لها، وهو ثمرة من ثمارها، وجاء الفعل( جاءهم ) في صورة المذكّر، لأن كلمة البيّنات التي وردت
في الآية تعني الكتاب – كذلك – تعني التوراة والإنجيل وكل منهما كتاب
وتأتي مواضيع تقديم العزّة على الحكمة في السياقات التي تتحدث عن قدرة الله تعالى ووحدانيّته وذلك نحو
قوله تعالى:(( هو الّذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلّا هو العزيز الحكيم ))
وقوله:(( شهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ))
وقوله:(( إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم ))
وقوله:(( يا موسى إنّه أنا الله العزيز الحكيم ))
هذا ويتقدّم ذكر العزيز على الحكيم – أيضاً – في مقام تنزيه الله تعالى وخضوع الكون له – سبحانه –
وذلك نحو قوله تعالى:(( وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الجاثية 37 )
وذلك لأن السياق قبل هذه الآية، تحدّث عن عناد الكافرين وإعراضهم عن منهج الحق، فسلّط الله عليهم عذاب
النار لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون فناسب ذلك ذكر العزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يفوته..
ويفعل ذلك عن حكمة ويقول تعالى:
(( وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات
الله هزواً وغرّتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون ))
وفي مقام التّنزيه والتسبيح يقول الحق سبحانه:
(( سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ))
(( سبّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم )) ( الحشر 1 )
(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ))
فناسب هذا المقام ذكر العزيز على غيره من الأسماء والصفات، وناسبه التقديم على ( الحكيم ) لئلا يتوهّم أحد
أن الله تعالى بحاجة إلى من يسبحه أو ينزهه، بل هو منزه بذاته، قدوس بجلاله، عزيز بقوته وجبروته وحكمته.. وقد جاء فعل التسبيح بالماضي ( سبح لله ) كما في أوّل الحديد والحشر ( والصف أيضاً )، وختمت سورة الحشر بالمضارع ( يسبح ) وافتتحت بها سورة الجمعة:(( يسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدّوس
العزيز الحكيم ))
لأن هذه الكلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ( سورة الإسراء ) فقال تعالى:(( سبحان الذي
أسرى بعبده.. )) لأنه الأصل، ثم بالماضي لأنه أسبق الزمانين، ثم بالمستقبل، ثم بالأمر في سورة الأعلى
((سبح اسم ربك الأعلى ))، استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وقوله تعالى:(( لله ما في السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ))، لأن التقدير في هذه السور:(سبح لله كل السموات والأرض )
وكذلك قال في آخر الحشر بعد قوله:(الخالق البارئ المصوّر ):(( هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم )) أي خلقهما