تقديم موضوع على آخر في السورة الواحدة:
اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن هل هو توقيفي أو باجتهاد الصحابة، وكان جمهور العلماء على أنه ليس توقيفياً بل هو من اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم أما الآيات فقد كان الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وقال عثمان رضي الله عنه كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول:
(ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )
ومعظم السور القرآنية قد اشتملت على موضوعات متعددة كالسبع الطوال والمئين والمثاني والمفصل… وهذه الآيات الموضوعية قد تقدّم بعضها على بعض بتوقيف من الله عز وجل وتظهر في ذلك نكتة بلاغية، نتبينها في المثال الآتي، ألا وهو سورة البقرة وهي على طولها ووضوح تفصيلها تتكون مما يأتي
المقدمة:الآيات ( 1-20 )
وهي في التعريف بشأن هذا القرآن ( أي في هذه السورة ) وبيان أن ما فيه من الهداية قد بلغ حداً من الوضوح
لا يتردد فيه ذو قلب سليم.
المقصد الأول: الآيات ( 21 -25 )
وجاء في دعوة الناس كافة إلى اعتناق الإسلام ثم عود على بدء في أربع عشرة آية من ( 26 -39 )
المقصد الثاني: الآيات ( 40 -126 )
في دعوة أهل الكتاب دعوة خاصة إلى ترك باطلهم والدخول في هذا الدين الحق وعلى ذلك مدخل إلى
المقصد الثالث في خمس عشرة آية من ( 163 – 177 )
المقصد الثالث: الآيات من ( 178- 283 )
في عرض شرائع هذا الدين تفصيلاً
المقصد الرابع:في آية واحدة 284
ذكر الوازع والنازع الديني الذي يبعث على ملازمة تلك الشرائع
الخاتمة:في آيتين اثنتين ( 285 – 286 )
وهي في التعريف بالذين استجابوا لهذه الدعوة الشاملة لتلك المقاصد، وبيان ما يرجى لهم إنها كالبناء الشامخ
الذي يبدأ فيه بإقامة الأساس من جذوره، ثم إقامة البنيان وتشييده ثم زركشته وتزيينه.
فهذا الترتيب للموضوعات في داخل السورة لهو كالحلقات المتشابكة يشدّ بعضها بعضاً ويؤدي كل موضوع إلى
أخيه في تسلم رائق، يمهّد له ويبسط ضوءه رويداً حتى يلقى بدره من الأعماق… ماذا لو جاء موضوع منها قبل الآخر ؟! ما نرى إلا اختلال ميزان الفكر وتشتت الوجدان والشعور !!
وقوفاً مع سورة أخرى، هي سورة النور وهي مدنية وآياتها أربع وستون آية.. وهي في الآداب الاجتماعية والتربية والنورانية التي تشع بنورها في البيت والأسرة والمجتمع.
ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل – التربية – في خمس أشواط
· الأول: يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به، ويليه بيان حدّ الزنا، ثم بيان حدّ القذف، ثم حديث الإفك.
· الثاني: وسائل الوقاية من الجريمة وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة، والحض على إنكاح الأيامى والتحذير من دفع الفتيات
إلى البغاء.
· الثالث: يتوسّط مجموعة من الآداب التي تتضمّنها السورة فيربطها بنور الله، ويتحدّث عن أطهر البيوت، وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم… ثم يكشف عن فيوض الله في الآفاق.
· الرابع: يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله ويصوّر أدب المؤمنين.
· الخامس: آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت وآداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة.
فيعجب المتأمّل من هذا الترتيب المنطقي البديع الذي بدأ أولاً بتطهير المجتمع من الجريمة ووضع العقاب والزجر ليرتدع المجرم، وقدّم ذلك على عرض وسائل الوقاية لتتهيّأ النفس لاستقبال تلك الآداب الوقائية بنفس هادئة
وتقبل على أساليبها بحب ممتزج بالخوف من الله، وهذان الموضوعان لازمان للدخول في الحديث عن آداب
آخرى يربطها بنور الله
ثم تصوير للآداب المفقودة في حق المنافقين فتقدم على تصوير آداب المؤمنين فبدأ من الأدنى للتنفير منه،
ثم للأعلى ليشحذ الهمم وتنشط النفس وترغيبها بعد ترهيبها.
يتقدّم تنظيم العلاقات الأسرية الصغيرة داخل البيوت، لأن ذلك هو النواة والأساس الذي ينى عليه بعد ذلك تنظيم العلاقات بين الأسرة الكبيرة في المجتمع المسلم ككل… فيتقدّم قوله تعالى:
(( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوّافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم ))
وهي الأسرة الصغيرة، على قوله تعالى:
(( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله
إن الله غفور رحيم )) (وهي الأسرة الكبير ).
وفي وسط هذه الآداب تأتي استراحة قصيرة – إن صح التعبير – ليمضي السياق في عرض مشاهد الكون ومظاهر الوجود الجميل والتأمّل في تقلّب الليل والنهار وعرض مظاهر القدرة على الخلق والتنويع في أشكال الخلق ( وذلك
في الآيات من 41 – 45 ) لتتوسط هذه الوقفة الكونية ما سبقها من آداب وتعاليم وما لحقها من آداب وتعاليم، فهذه السورة نموذج من ذلك التنسيق، لقد تضمّنت بعض الحدود إلى جانب الاستئذان على البيوت، وإلى جانبها جولة ضخمة في مجال الوجود، ثم عاد السياق يتحدث عن حسن أدب المسلمين في التحاكم إلى الله ورسوله وسوء أدب المنافقين إلى جانب وعد الله الحق للؤمنين بالاستخلاف والأمن والتمكين، وها هو ذا يعود إلى آداب الاستئذان في داخل البيوت إلى جانب الاستئذان من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظم علاقة الزيارة والطعام بين الأقارب والأصدقاء إلى جانب الأدب الواجب في خطاب الرسول ودعائه