مقدمة
ابتدأت السورة الكريمة ببيان القيامة وما يصاحبها من انقلاب کونی هائل، يشمل الشمس،
والنجوم، والجبال، والبحار، والأرض والسماء، والأنعام، والوحوش، كما يشمل البشر،
ويهز الكون هزا عنيفا طويلا، ينثر فيه كل ما في الوجود، ولا يبقى شيء إلا وقد تبدل
وتغير من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى القيامة، كأنه رأى عين فليقرأ:
(إذا الشمس كورت) (وإذا السماء انفطرت) (وإذا السماء انشقت)”.
والآن هيا بنا لنتعايش بقلوبنا مع تفسير سورة التكوير:
(إِذَا الشَّمْسُ كوِّرَتْ)
أي: إذا جمع بعضها إلى بعض ثم لفت وژمی بها وذهب ضوؤها.
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)
أي: وإذا النجوم تناثرت وتساقطت وتهاوت.
(وَإِذَا الْجِبَالُ سيِّرَتْ)
أي: وإذا الجبال حرکت من أماكنها وقلعت من الأرض وسيرت في الهواء حتى صارت کالهباء.
(وَإِذَا الْعِشَارُ عطِّلَتْ)
أي: وإذا النوق الحوامل جمع ناقة وهي أنثى الجمل.
عُطِّلَتْ
أي: أهملت وعطلها أهلها وتركوها بلا راع لاشتغالهم بأنفسهم من شدة هول يوم القيامة.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حشِرَتْ)
أي: وإذا الوحوش جمعت من أوكارها مذهولة من شدة الفزع ليقتص لبعضها من
بعض ثم يقال لها: كونی ترابا فتموت وتكون ترابا.
(وَإِذَا الْبِحَارُ سجِّرَتْ)
أي: وإذا البحار اشتعلت وتأججت نارا وصارت نیرانا تلتهب.
(وَإِذَا النُّفُوسُ زوِّجَتْ)
أي: وإذا النفوس قرنت بأشباهها… فقرن الفاجر مع الفاجر في النار، وقرن الصالح مع الصالح في الجنة.
وقيل: قرنت الأرواح بأجسادها.
(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قتِلَتْ)
أي: وإذا البنت التي كان بعض العرب في الجاهلية يدفنها حية من كراهته لها، أو غيرته عليها،
سئلت توبيخا لقاتلها: ما هو ذنبها حتى قتلت؟!
(وَإِذَا الصُّحُفُ نشِرَتْ)
أي: وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها وفتحت وبسطت عند الحساب بعد أن كانت مطوية.
والمراد هنا صحف الأعمال التي سجلت فيها الملائكة ما فعل أهلها من خير أو شر.
(وَإِذَا السَّمَاءُ كشِطَتْ)
أي: وإذا السماء نزعت وأزيلت من مكانها كما ينزع الغطاء عن الشيء وكما ينزع الجلد عن الشاة.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ)
أي: وإذا نار جهنم أوقدت لأعداء الله تعالی.
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)
أي: وإذا الجنة قربت وأدنيت من المتقين.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ)
أي: علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر.
والمعنى إذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حينئذ كل نفس ما قدمته من صالح أو طالح
من كتابها الذي أخذته.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)
أي: فأقسم قسما مؤكدا بالخس، وهي النجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل.
(الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)
أي: التي تجري في أفلاكها مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في مغاراتها.
(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ)
أي: وأقسم بالليل إذا أقبل بظلامه حتى غطى الكون.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)
أي: وبالصبح إذا أضاء وتبلج، واتسع ضياؤه حتى صار نهارا واضحا.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)
أي: هذا هو المقسم عليه، إن هذا القرآن الكريم، لكلام الله المنزل بواسطة ملك كريم على الله
هو جبريل عليه السلام.
(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)
أى: شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جل وعلا.
(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)
أي: مطاع هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء.
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)
أي : أقسم تعالی علی أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون
كما يزعم أهل مكة، فتفی تعالی عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه.
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)
أي: وأقسم لقد رأی محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته الملكية التي خلقه الله
عليها بجهة الأفق الأعلى الواضح من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس…
رأى جبريل عليه السلام على کرسی بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سد
ما بين المشرق والمغرب.
ثم نفي الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كتمان شیء من الوحي فقال تعالي:
(وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)
أي: وما محمد عالم على الوحی ببخيل يقصر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانة وصدق.
(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)
أي: وما هذا القرآن بقول شیطان ملعون كما يقول المشركون.
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)
أي: فأي طريق تسلكون في تكذيبكم للقرآن واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر مع وضوح آياته وسطوع براهينه..
وهذا كله كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق واضح فأين تذهب؟
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)
أي: ما هذا القرآن إلا موعظة، وتذكرة للخلق أجمعين.
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)
أي: لمن شاء منکم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله.
(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
أي: وما تقدرون على شيء إلا بتوفيق الله ولطفه؛ فاطلبوا من الله التوفيق إلى أفضل طريق.