قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وقد ورد فيها –أي الغيبة- الزجر الأكيد و لهذا شبهها الله تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ" أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذلك شرعاً فإن عقوبته أشد من هذا)
و قال رحمه الله: (و الغيبة محرمه بالجماع و لا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في
الجرح و التعديل و النصيحة)
و قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير الآية:(و الإجماع على أنها-أي الغيبة- من الكبائر و أنه
يجب التوبة منها إلى الله تعالى
الأسباب الباعثة على الغيبة و علاجها
هناك عدة أسباب تدفع الإنسان إلى الغيبة منها
الحسد : و هو مرض قلبي تنشأ منه معصية الجوارح فالحاسد عدو لنعمة الله على عباده يتمنى زوالها و
العاقل من اقتلع أصله من قلبه فسلم من شره قال ابن تيميه:"ما خلا جسم من حسد
فالكريم يخفيه و اللئيم
يبديه" و الحسد يدفع صاحبه إلى إطلاق لسانه بالسب ى القدح و الذم و ذكر عيب الآخرين و هضم حقهم
و الحط من شأنهم و تهيج عداوة الحاسد إذا سمع الناس يثنون على خصمه فيزاد حقده و يتفاقم حسده و
تزداد ضراوة لسانه و قد يؤدي هذا المرض اللعين إلى اقتلاع الإيمان من قلب العبد و العياذ بالله.
وعلاجه:
الرضا بقسمة الله تعالى فالله قسم بين الناس أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم فلا اعتراض على حكمته
تشفي الغيظ : بأن يجري من إنسان من حق آخر سبب يهيج غضبه و الغضب دافع قوي نحو الغيبة للتشفي لذا أوصى الرسول صلى الله عليه و سلم من طلب الوصية قائلاً :"لا تغضب" وقال صلى الله عليه و سلم: " من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء "
مجاملة الأصحاب: فمجالسة الأشرار و صحبة الفجار الذين لا تكاد مجالسهم تنفك عن غيبة أو نميمة أو وقيعة و مساعدتهم و ترك الإنكار عليهم من الأسباب الباعثة على الغيبة
و العلاج
أ- ترك مجالستهم حتى يخوضوا في حديث غيره
ب- الإنكار عليهم ورد الغيبة عن المسلم و الدفاع عن عرضه رجاء الثواب فعن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من ذبَ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) - صحيح بشواهده أخرجه أحمد و غيره
و في رواية: (من رد عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) - حسن أخرجه الترمذي و حسنه
و في رواية: (من رد عن عرض أخيه كان له حجابا من النار)
و عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من حمى مؤمنا من منافق (أراه قال): بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم و من رمى مسلما بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال)
واعلم أخي المسلم أن المستمع شريك المتكلم لان الرضا بالمعصية معصية و الرضا بالكفر كفر و قال تعالى:( َإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
فحسن الإصغاء للمغتاب أو إظهار الرضا بكلامه معصية قال تعالى: (لاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
اللعب و الهزل: مثل محاولة إظهار خفة الدم و إظهار المرح بمحاكة الأشخاص و التندر بهم و إظهار هفواتهم و تقليدهم كما يحدث في عامة مجالسنا و كما نشاهده و نسمعه في المسلسلات الهابطة و الأفلام الساقطة و غير ذلك مما عم به البلاء
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ويل للذي يحدث حديثاً فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له) –
و عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إن الرجل ليتكلم الكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبعد من الثريا)
أن يستشعر من إنسان انه سيقصده و يهينه أو يذمه أو يقبِح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة فيبادريطعن فيه ليسقط اثر شهادته أو يبدأ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج
كذبه بالصدق الأول
الغضب لله تعالى: فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه و يذكر اسمه و كان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لا يظهره على غيره أو يستر اسمه و لا يذكره بالسوء
تحريم الغيبة بالقلب
اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك و تسئ الظن بأخيك و لست اعني به إلا عقد القلب و حكمه علي غيره بالسوء فأما الخواطر ا حديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضا معفو عنه و لكن المنهي أن يظن و الظن عبارة عمتركن إليه النفس و يميل إليه القلب
و سبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يقبل التأويل فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته و شاهدته و ما لم تشاهده بعينيك و لم تسمعه باذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك فينبغي أن تكذبه فإنه افسق الفاسقين و قد قال تعالى: " َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ "