وقد تأتي الكلمة مقدمة لبيان الترتيب والسبق:
فمن حيث السبق في الزمان:قوله تعالى:(( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي ))
) ومن حيث السبق في الإيجاد:قوله تعالى:(( لا تأخذه سنة ولا نوم ))
لأن العادة في البشر أن تأخذ العبد السنة قبل النوم، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة، ذكره السهيلي
وذكر معها وجهاً آخر، وهو أنها وردت في معرض التمدح والثناء وافتقاد السنة أبلغ في التنزيه فبدأ بالأفضل،
لأنه إذا استحالت عليه السنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم
وقد تتقدم الكلمة من موقعها في السياق بعدما جاءت في صدر الآية على خلاف ذلك، كقوله تعالى:
(( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ))
فقد تأخّر المتعلّق على شبه الفعل في قوله ( شهداء على الناس ) وتقدّم في قوله ( عليكم شهيداً ) وذلك
لأن الغرض في الأولى إثبات شهادتهم على الأمم وليس فيها معنى الاختصاص، وفي الثانية اختصاصهم
يكون الرسول شهيداً عليهم وليس مجرد إثبات شهادته عليهم
ومن ذلك قوله تعالى:
(( يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون ))
فصدر الآية جاء في سياق المقابلة على هيئة الإجمال ثم التفصيل الذي بدأ بالذين اسودّت وجوههم، في حين
أن البداية كانت بالذين ابيضّت وجوههم، وفي ذلك تلوين للخطاب لإدخال البشر والتفاؤل أو لا لتعظيم هذه
الفئة ثم الانتهاء بذكرهم أيضاً تعظيماً وتشريفاً، ولذلك بدأ التفصيل بما انتهى إليه الإجمال والله تعالى أعلم.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
(( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ))
ثم قال جل شأنه:
(( الزاني لا ينكح إلى زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ))
قدّم الزانية في السياق الأول لأن الكلام كان عن حد الزنا وهو الجلد، وفيه لفت للنظر وإيحاء للبشر للمحافظة
على عفاف المجتمع عن طريق صيانة المرأة، لأنها إذا فسقت كانت سبباً في انتشار تلك الجريمة، أما المقام
الثاني فكانت بداية الآية فيه بالرجل ( الزاني ) وهي مسوقة ( لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب ومنه يبدأ الطلب
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
(( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة
والله خير الرّازقين ))
تقدمت التجارة على اللهو أولاً ثم تأخرت ثانياً… ربما كان الاعتبار هنا في هذا المقام على أنها بمثابة الشيء الواحد، لأن السياق أفاد ذمّ هذا الفعل واستنكاره، وبدليل أنه قال ( انفضوا إليها )، ولم يقل انفضوا إليهما،
لأن الإنسان إذا ترك خطبة الجمعة وانصرف إلى التجارة فقد فعل اللهو والعبث، فما بالنا إذا كان هذا مع النبي ؟! هذا ومن المعلوم أنه لا يجوز أثناء الخطبة مجرد الكلام أو العبث بالثياب ونحوه، فما الأمر إذا كان الخروج
للتجارة التي كان يصاحبها الطبل وقتذاك ؟! فقدّم اللهو في المرة الثانية للتنبيه على قبح فعلهم وشنيعه..