حكمة سليمان عليه السلام في القرآن الكريم
تحدث القرآن الكريم عن سيدنا سليمان سبع عشرة مرة، في ست عشرة آية من كتاب الله عز وجل؛ كلها مترابطة ومتناسقة، تبين ما وهبه الله تعالى لهذا النبي الكريم من الفهم والحكمة والعقل، وما حباه الله تعالى من صفات العبودية لله تعالى، فقد كان على صلة وثيقة بربه عز وجل، شاكراً لأنعمه، محباً لدعوته، أعطاه الله تعالى الملك والنبوة، ووهبه من المعجزات والآيات البينات، التي كانت نبراساً يهتدي بها في دعوته إلىالتوحيد الخالص لله تعالى.
وتوضح الآيات بعض الافتراءات التي أثارها اليهود على شخصية سيدنا سليمان، ورد هذه الافتراءات، فكانت هذه الآيات نسيجاً واحداً مترابطاً ومتناسقاً.
وفي السطور التالية نلقي الضوء على الآيات التي تحدثت عن حكمته ، ونوضح آراء العلماء والمفسرين حولها.
فقد بينت الآيات أن الله تعالى وهب داود وسليمان – عليهما السلام – علماً جامعاً لخيري الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين}
ومعنى هذه الآيات: ” ولقد آتينا داوود نبي الله وسليمان ابنه- عليهما الصلاة والسلام- آتاهما ربهما علما من لدنه، علماً شريفاً يتعلق بذاته تعالى، وبوصفه بصفات الجلال والكمال، وتنزهه عن كل نقص وما هو في حقه من المحال، علماً هو أشرف العلوم والمعارف، علما جامعاً لخيرى الدنيا والآخرة، ولقد آتيناهما علماً فعملا به حتى امتلأ قلبهما يقيناً وعزماً أكيداً على فعل الطاعات، وهجر المحرمات، والشكر لله- سبحانه- حتى قالا: الحمد لله وحده، الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، بهذه العلوم والمعارف المصحوبة بالعمل القلبي والبدني واللساني، وفي هذا رفع لمرتبة العلم والعلماء. إذ قد أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم.” وتوضح الآيات أن سليمان ورث داود في العلم والنبوة والملك والحكم لا في المال لأن الأنبياء لا تورث فيه فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِين}
فهو وارث ملكه والقائم في مقامه في سياسة الأمة وظهور الحكمة ونبوءة بني إسرائيل والسمعة العظيمة بينهم. فالإرث هنا مستعمل في معناه المجازي وهو تشبيه الأحوال الجليلة بالمال وتشبيه الخلفة بانتقال ملك الأموال لظهور أن ليس غرض الآية إفادة من انتقلت إليه أموال داود بعد قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين} فتعين أن إرث المال غير مقصود فإنه غرض تافه.
وقد بين القرآن الكريم مثالاً لحكم سليمان، وحكمته في القضاء بين الناس.
فقال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين}
ومعنى الآية ” أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي عَلّمنا وألهمنا سليمان u الحكم في القضية {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أي وكلاً من داود وسليمان- عليهما السلام – أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة.
قال المفسرون: تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع! قال: وما هو؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إلى صاحبها والأرض إلى ربها.
فقال له داود u: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك؛ فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
وفضل حكم سليمان uحكم أبيه في أنه أحرز أن يبقى كل واحد منهما على متاعه وتبقى نفسه طيبة بذلك؛ وذلك أن داود رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث.
كان داود وسليمان – عليهما السلام – نبيين يقضيان بما يوحى إليهما فحكم داود بوحي وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود وعلى هذا { ففهمناها سليمان } أي بطريق الوحي الناسخ لما أوحي إلى داود وأمر سليمان أن يبلغ ذلك داود ولهذا قال: { وكلا آتينا حكماً وعلماً } هذا قول جماعة من العلماء.
وقد رجح الإمام ابن القيم ما حكم به سيدنا سليمان فقال:
وَمَا حَكَمَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَمَانٌ عَلَى أَهْلِهَا، فَصَحَّ بِحُكْمِهِ ضَمَانُ النَّفْشِ، وَصَحَّ بِالنُّصُوصِ السَّابِقَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْمِثْلِ، وَصَحَّ بِنَصِّ الْكِتَابِ الثَّنَاءُ عَلَى سُلَيْمَانَ بِتَفْهِيمِ هَذَا الْحُكْمِ، فَصَحَّ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ولم يكن القرآن الكريم وحده هو الذي تحدث عن حكمة سليمانوعلمه وقضاءه؛ بل نجد السنة النبوية توضح هذه الحكمة العظيمة، فقد ورد عن النبي أنه تحدث عن حكمة سليمان في قضية المرأتين اللتين تشاجرتا على طفل رضيع، وهذه القصة قد وردت في العهد القديم؛ وقد أشرنا إليها في الفصل السابق، ولكنها في السنة النبوية اختلفت في بعض الأمور عن ما ورد في العهد القديم،
وهذا بيانها في السنة النبوية:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ” قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا المُدْيَةَ»
فهاتان المرأتان، جاءتا إلى داود ليحكم بينهما في أمر طفل رضيع كل واحدة منهما تزعم أنه ابنها، لأن الذئب قد قتل ابن الأخرى، فتحاكمتا إلى داود ليفصل بينهما في القضية،؛ فحكم داود للكبرى، وبعد خروجهما من مجلس القضاء تقابلا بسليمان فعرضتا عليه الأمر، فأراد أن يصل إلى حقيقة أمرهما؛ فلجأ إلى حيلة يعرف بها الحقيقة، فأوهمهما أنه يريد قطعه؛ وذلك ليعرف من ستشفق عليه وتأبى قطعه، فتكون هي أمه الحقيقية، فلما رأى سليمان حرص الكبرى على قطعه وإشفاق الصغرى، عرف الحقيقة، وحكم به للصغرى.
وهذا دليل على فطنته وذكائه، وقد علق الإمام النووي على هذا الحديث، موضحاً وجهة قضاء داود ووجهة قضاء سليمانu، وموضحاً السبب في إقدام سليمان على الحكم بعد نفاذ حكم أبيه فيقول:
” يَحْتَمِلُ أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى لِشَبَهٍ رَآهُ فِيهَا أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِ التَّرْجِيحُ بِالْكَبِيرِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ فِي يَدِهَا وَكَانَ ذَلِكَ مُرَجِّحًا فِي شَرْعِهِ وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَتَوَصَّلَ بِطَرِيقٍ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ بَاطِنِ الْقَضِيَّةِ فَأَوْهَمَهُمَا أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَهُ لِيَعْرِفَ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهَا قَطْعُهُ فَتَكُونُ هِيَ أُمَّهُ فَلَمَّا أَرَادَتِ الْكُبْرَى قَطْعَهُ عَرَفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ فَلَمَّا قَالَتِ الصُّغْرَى مَا قَالَتْ عَرَفَ أَنَّهَا أُمُّهُ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْطَعُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ شَفَقَتِهِمَا لِتَتَمَيَّزَ لَهُ الْأُمُّ فَلَمَّا تَمَيَّزَتْ بِمَا ذَكَرْتُ عَرَفَهَا وَلَعَلَّهُ اسْتَقَرَّ الْكُبْرَى فَأَقَرَّتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ لِلصُّغْرَى فَحَكَمَ لِلصُّغْرَى بِالْإِقْرَارِ لَا بِمُجَرَّدِ الشَّفَقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَمِثْلُ هَذَا يَفْعَلُهُ الْحُكَّامُ لِيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى حَقِيقَةِ الصَّوَابِ بِحَيْثُ إِذَا انْفَرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ حَكَمَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ حُكْمِ دَاوُدَ فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ وَنَقَضَ حُكْمَهُ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَنْقُضُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ مَذْكُورَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَكُنْ جَزَمَ بِالْحُكْمِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْوَى مِنْ دَاوُدَ لَا حُكْمًا وَالثَّالِثُ لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ فَسْخُ الْحُكْمِ إِذَا رَفَعَهُ الْخَصْمُ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَهُ وَالرَّابِعُ أَنَّ سُلَيْمَانَ فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً إِلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ وَظُهُورِ الصِّدْقِ فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ الْكُبْرَى عَمِلَ بِإِقْرَارِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ كَمَا إِذَا اعْتَرَفَ الْمَحْكُومُ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ أَنَّ الْحَقَّ هُنَا لِخَصْمِهِ “.
ومما سبق عرضه يتضح: أن حكمة سليمان في القرآن الكريم، حكمة نبوية مصدرها الوحي الإلهي، عمل بها سليمان على ترسيخ الحق بين الناس، ودعوتهم إلى التوحيد الخالص، بينما جاءت هذه الحكمة في العهد القديم – على الرغم من عظمتها- خالية من القدسية، متناقضة، قائمة على المادية البحتة؛ التي يعشقها اليهود.