المقارنة بين حكمة سليمان في العهد القديم والقرآن الكريم
بعد الحديث عن حكمة سليمان في العهد القديم وحكمته في القرآن الكريم، نأتي في هذا الفصل لبيان أوجه الاتفاق والاختلاف، بينهما، فالعهد القديم والقرآن الكريم يتفقان في أن حكمة سليمان؛ كانت حكمة عظيمة فاقت جميع البشر، وعلى الرغم من ذلك فإن هناك تباين بين الحكمتين، وذلك في مصدرها ولوازمها وصفتها؛ وهذا ما سيتضح لنا في السطور التالية:
بالنسبة لمصدر الحكمة في العهد القديم، نجد أن كتاب العهد القديم يصورون حكمة سليمانu بأنها كأي حكمة أرضية، حكمة مادية، مجردة من معاني القدسية والنبوة؛ فسليمان u في نظرهم؛ ملك حكيم فحسب وليس بنبي، وقد جردوا هذه الحكمة من كل أمر يدعو إلى التوحيد والإيمان.
وقد أثبتت أسفارهم وهي تتحدث عن حكمة سليمان أنه( رأى في منامه ) وهذا يعني عندهم أنه موحى إليه، وقد تحققت رؤيته كما أثبتت الأسفار ذلك في الحكم بين المرأتين، ومع ذلك فاليهود ينكرون نبوته، ومما زاد الأمر عجباً؛ أنهم اتهموا سليمان بالردة والظلم، وهذا ما يتنافى مع حكمته.
حيث جاء في سفر الملوك الأول أن سليمان اتخذ نساءً كثيرات؛ فأملن قلبه، وعصى أوامر الرب واتخذ آلهة أخرى، وأصبح قلبه غير كامل مع الله، وبهذا أصبح النبي سليمان في نظر هؤلاء مرتداً، تاركاً للتوحيد، متبعاً لإغواء نسائه، حتى إنه مات مرتداً ولم يتب من معصيته؛ وكذلك وصفوه في بعض أسفارهم بأنه
حاكم قاسي وظالم
وهذا الوصف القبيح وإلصاق تهمة الكفر والظلم بهذا النبي الكريم، يتنافى مع ما وصفوه به من الحكمة العظيمة التي فاقت جميع البشر.
وهذا ما يؤكد تناقض أسفارهم واضطرابها وبذلك أصبحت هذه الحكمة التي وصفوا بها سليمان حكمة منقوصة، وكل ما وصفوه من صفات أخرى كريمة، هدموها بهذه الافتراءات.
إضافة إلى ذلك فهناك من الأسفار ما توضح نفي الحكمة عن سليمان، كما ورد في سفر الأمثال: ( إِنِّي أَبْلَدُ مِن كُلِّ إِنْسَانٍ، وَلَيْسَ لِي فَهْمُ إِنْسَانٍ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْحِكْمَةَ، وَلَمْ أَعْرِفْ مَعْرِفَةَ الْقُدُّوسِ )
أما في وصف حكمة سليمان ؛ فتصور أسفارهم هذه الحكمة بالحديث عن المخلوقات في البر والبحر والهواء دون الإشارة إلى أنه صاحب عقيدة ودعوة إلى الله تعالى، أو أنه استخدم حكمته في إقناع الملوك والرؤساء بالإيمان بالخالق الواحد، ولكن تصورها بالصورة التي يحبها اليهود وكتابهم، وهي الصورة المادية الامعة؛ من ذهب وفضة وهدايا وعطايا
وتقدم من الملوك الذين حضروا لسماع الحكمة، ويبادلهم الحكيم سليمان – على حد تعبيرهم –
هذه الهدايا، بل ويزيد.
أما نظرة القرآن الكريم إلى حكمة سليمان من حيث مصدرها ولوازمها؛ فنجد أنها تختلف عن نظرة العهد القديم، ففي القرآن الكريم يظهر واضحاً أن مصدر الحكمة هو الوحي الإلهي، فسليمان نبي موحى إليه
كما أوحى الله إلى الأنبياء والرسل قال تعالى:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}
وقد جاء ذكر سيدنا سليمان مع الأنبياء من ذرية إبراهيم ، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين }
وأمر الله سبحانه وتعالى نبيه بالاقتداء به في جملة الأنبياء فقال تعالى:
{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين}
وجاء ذكر سليمان وصفاته في القرآن الكريم، متناسبة مع ما وصف به من الحكمة، فقال تعالى:
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب}
ومعنى الآية: إشارة إلى أنه كثير الأوب والرجوع إلى اللّه، وأنه مع الملك العظيم الذي جعله اللّه بين يديه، كان على صلة وثيقة بربه.. فلم يقطعه الملك عن ذكر ربه، بل إنه كلما كانت له نظرة إلى ملكه
كانت له إلى ربه نظرات..
وقد برأه الله تعالى من كل التهم والافتراءات التي ذكرها كتاب الأسفار اليهودية، من الكفر والظلم وغيرها من الصفات التي لا تتناسب مع مقام النبوة.
قال تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ } حيث قال اليهود- على عهد نبينا : انظروا إلى محمدe يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحراً يركب الريح.
فالقرآن الكريم وصف سيدنا سليمان بالنبوة والتقوى والورع والعلم والحكمة، والشكر، ولم يذكر شيئاً يتنافى مع مقام النبوة والحكمة، كما فعل كتاب العهد القديم.
حكم سليمان في المرأتين والطفل الرضيع
نجد أن التشابه يكاد أن يكون واضحاً بين القصة التي وردت في العهد القديم، والقصة في الحديث النبوي؛ إلا أن القصة في العهد القديم بها شيء من التحريف يمكن أن نجمله في النقاط التالية:
- فالطفل لم يمت لأن أمه اضطجعت عليه في الليل؛ كما جاء في العهد القديم، ولكن لأن الذئب قد خطفه كما بين الحديث النبوي ذلك، ويبدو أن المرأتين كانتا خارج القرية بعيداً عن الناس، فالذئاب لا تخطف
الأطفال من البيوت.
- دعوى كُتاب العهد القديم أن هذه الواقعة جرت على عهد ملك سليمان بعد وفاة داود؛ دعوى باطلة، والصواب: أنها جرت في عهد داود، وقد حكم فيها داود أولاً، وخالفه سليمان في حكمه، كما سبق بيانه.
- يذكر العهد القديم أن سليمان أمر جنوده أن يأتوا بالسيف ليشق الطفل؛ لأنه كان ملكاً عند حكمه، ولكن الصحيح كما ذُكِر في الحديث؛ أنه دعا بالسكين، وهي الأداة المناسبة لشق طفل صغير نصفين؛ لا السيف.
- وصف العهد القديم المرأتين بالزنا؛ وهذا بعيد؛ بدلالة ما بدا من أم الطفل من عبارات تدل على الصلاح والتقوى، فهي تقول لنبي الله سليمان عندما أراد أن يشق الطفل: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها.
ولو كانتا زانيتين فهل كان يقرهما نبيا الله داود وسليمان – عليهما السلام – على فعلهما ؟!
- ويضاف إلى ما سبق أن الحكمة التي طلبها سليمان من الله في الحلم كما ذكر كتاب العهد القديم، قد تحققت في حكمه في قضية المرأتين، وهذا دليل على نبوة سليمان، لأن رؤيا الأنبياء حق، وهم مع ذلك ينفون عن سيدنا سليمانu أمر النبوة، إن هذا لشيء عجاب !