الأركان التي لا يصح الحج إلا بالإتيان بها، ولا تُجبر بدم أربعة: الركن الأول: الإحرام:
لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ".
وقد أجمع العلماء على أنَّ الإحرام فرض في الحج لا يصح الحج إلا به.
قال ابن حزم رضي الله عنه: "وَاتَّفَقُوا أَنَّ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ فَرْضٌ". والمقصود بالإحرام هو نية النسك، وليس لبس ثوب الإحرام؛ لأن الإنسان قد ينوي
النسك فيكون محرمًا، ولو كان عليه قميصه وإزاره، ولا يكون محرمًا
ولو لبس الإزار والرداء إذا لم ينو.
والنية محلها القلب فيكون داخلًا في النسك إذا نوى أنه داخل فيه، لكن يجب أن تعرف
الفرق بين من نوى أن يحج، ومن نوى الدخول في الحج، فالثاني هو الركن،
أما من نوى أن يحج فَلَمْ يُحرم، فلا صلة له بالركن؛ ولهذا ينوي الإنسان الحج من
رمضان ومن رجب ومن قبل ذلك، ولا نقول إن الرجل تلبس بالنسك
أو دخل في النسك أو أحرم.
فمن ترك الإحرام؛ يعني: النية؛ أي: الدخول في النسك، فإنه لا ينعقد نسكه حتى لو طاف
وسعى، فإن هذا العمل ملغى، كما لو ترك تكبيرة الإحرام في الصلاة، وأتم الصلاة بالقراءة
والركوع والسجود والقيام والقعود، فصلاته ملغاة لم تنعقد أصلًا.
الركن الثاني: الوقوف بعرفة:
لحديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ رضي الله عنه، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَأَتَاهُ نَاسٌ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ عَرَفَةُ،
فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ"
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَاقِفًا بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقَالَ: "مَنْ صَلَّى مَعَنَا صَلَاتَنَا هَذِهِ هَا هُنَا، ثُمَّ أَقَامَ مَعَنَا وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ
ذَلِكَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ"
وقد أجمع العلماء على أنَّ الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به.
قال ابن المنذر رضي الله عنه: "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَرْضٌ، وَلَا حَجَّ
لِمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا".
وقال ابن عبد البر رضي الله عنه: "وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ
وَبِكُلِّ مِصْرٍ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّهُ فَرْضٌ لَا يَنُوبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا حَجَّ لَهُ".
وقال ابن قدامة رضي الله عنه: "وَالْوُقُوفُ رُكْنٌ، لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، إجْمَاعًا" الركن الثالث: طواف الإفاضة:
ويسمى أيضًا: طواف الزيارة؛ وهو ركن بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].
قال الطبري رضي الله عنه: "وَعُنِيَ بِالطَّوَافِ الَّذِي أَمَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَاجَّ بَيْتِهِ الْعَتِيقِ
بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ الَّذِي يُطَافُ بِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، إِمَّا يَوْمَ النَّحْرِ,
وَإِمَّا بَعْدَهُ، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ"اهـ.
فالآية فيها أمر بالطواف، والأمر للوجوب.
وأما السُّنَّة: فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه، قَالَتْ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَنْ يَنْفِرَ، إِذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً، فَقَالَ لَهَا: "عَقْرَى أَوْ حَلْقَى، إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا،
أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "فَانْفِرِي إِذًا".
والحديث يدل على أنَّ طواف الإفاضة لا بد منه.
وأما الإجماع: فقد قال ابن المنذر رضي الله عنه: "وَأَجْمَعُوا أَنَّ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ
هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ"
وقال ابن حزم رضي الله عنه: "وَأَجْمَعُوا أَنَّ الطَّوَافَ الْآخَرَ الْمُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ
بِالْبَيْتِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَرْضٌ".
وقال ابن رشد رضي الله عنه: "وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا الَّذِي يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ
هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَأَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾
[الحج: 29]، وَأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ دَمٌ"اهـ.
وقال ابن قدامة رضي الله عنه: "وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ عِنْدَ إفَاضَتِهِ
مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ رُكْنٌ لِلْحَجِّ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه: "لَا بُدَّ بَعْدَ الْوُقُوفِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
وَإِنْ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ".
الركن الرابع: السعي بين الصفا والمروة:
لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].
فتصريحه سبحانه وتعالى بأن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله، يدل على أن السعي بينهما
أمرٌ حتمٌ لا بد منه.
وَعَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ رضي الله عنه، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءَهُمْ، وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى
رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ".
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَطْحَاءِ
وَهُوَ مُنِيخٌ، فَقَالَ: "أَحَجَجْتَ؟"، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "بِمَا أَهْلَلْتَ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ
كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ".
فهذا أمر بالسعي؛ والأمر للوجوب.